السبت، 2 يناير 2016

مواطن التوسع في القرآن (للدكتور فاضل السامرائي)



ما هو مفهوم التوسع في القرآن الكريم؟ التوسّع في المعنى هو أن يؤتى بتعبير يحتمل أكثر من معنى وتكون كل هذه المعاني مُرادة وهناك مواطن للتوسع في القرآن الكريم كما سبق شرحه في سورة البلد في معنى كلمة (حِلّ) وقلنا أنها تعني مستحل وحلال ومقيم أو حالّ وهذه المعاني كلها مرادة في الآية. وكذلك في قوله تعالى (فلا اقتحم العقبة) وقلنا أنّ (لا) محتمل أن تكون داخلة على المستقبل أو يراد بها الدعاء أو حرف الإستفهام محذوف أو غيرها. وللتوسع في القرآن الكريم أسباب ومواطن.
مواطن التوسّع:
* الألفاظ المشتركة: يوجد في القرآن الكريم ألفاظ تشترك في المعنى مثل كلمة (جائر) على سبيل المثال هل هي اسم فاعل من (جأر أو جار)؟ وكذلك كلمة (سائل) هل هي من سأل أو سال؟ هناك كلمات إذن تحتمل أكثر من معنى كما في كلمة العين يذكر لها أكثر من معنى فهي تحتمل أن تكون الجاسوسة أو عين الماء أو أداة الإبصار. وكذلك تكثر في الحروف مثلاً (ما) هل هي استفهامية أو تعجبية أم ماذا؟ هل هي نافية؟ يمكن أن تقع في تعبيرات تحتمل عدة معاني في آن واحد فإذا أريدت كل هذه المعاني يدخل في باب التوسّع.
نقول مثلاً : ما أغفلك عنّا؟ (ما) تحتمل أن تكون استفهامية أو تعجبية فإذا أردنا المعنيين صار توسّعاً. كذلك (إنّ) تكون نافية أو مشبّهة بليس أو ليست مشبّهة بليس كما في قوله تعالى (إن هو إلا رحمة للعالمين) وقوله تعالى (إن أنا إلا نذير) وقوله تعالى (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) وقد تكون (إنّ) شرطية كما في قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) وقد تكون (إنّ) مخففة من الثقيلة.
وإذا قلنا: هو لا يكذب وإن أُكره على ذلك. قد نفهم أنها شرطية بمعنى لا يكذب حتى لو أُكره، وقد تكون نافية أي لا يكذب ولم يُكره على ذلك فلماذا يكذب؟ هذا هو التوسّع في المعنى بصورة مبسّطة.

وإذا أرنا التوسع في المعنى لا ضرورة عندها لوجود قرينة لأن القرينة هي التي تساعد على تحيد معنى واحد من المعاني المرادة دون غيره. إذن إذا أُريد التوسع لا يؤتى بالقرينة وإذا أردنا تحديد معنى من المعاني يؤتى بالقرينة التي تدل عليه.
ونأخذ أمثلة من القرآن الكريم:
قال تعالى في سورة القمر (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ {54}) كلمة (نََهَر) لها دلالات مختلفة منها السَعة في الرزق والمعيشة وفي كل ما تقتضيه السعادة سعة فيه. ومن دلالاتها أيضاً الضياء لأتهم يقولون أن الجنة ليس فيها ليل ومن معاني النَهَر في اللغة أيضاً مجرى الماء. الآية في سورة القمر تحتمل كل هذه المعاني وهي كلها مرادة. ومن الملاحظ في القرآن كلّه أنه حيثما جمع الجنّات جمع الأنهار إلا في هذه الآية، فقد ورد في القرآن قوله تعالى (جنات تجري من تحتها الأنهار) وجود كلمة تجري هنا تدل على أن المعنى المطلوب هو مجرى الماء. وفي آية أخرى قال تعالى (فيها أنهار من ماء غير آسن) وجود (غير آسن) في الآية تفيد جريان الماء لأن الماء لا يأسن إلا إذا في حالة الركود وغير آسن قرينة الجريان. أما في آية سورة القمر جاءت كلمة (نهر) بدون قرينة (في جنات ونهر) وهي وردت في المتقين وهم المؤمنون وزيادة لذا جاء بالنهر وزيادة كما قال المفسرون. والمعنى المُراد في الآية أن المتقين في جنات ونهر بمعنى في ماء وضياء وسعة وقد ورد في الحديث الشريف (الجنة نور يتلألأ وريحانة تهتز قصر مشيد) وهم في سعة من العيش والرزق والمنازل وما تقتضيه السعادة السعة فيه وهذا من التوسّع في المعنى ولم يؤتى بأي قرينة تدل على معنى واحد فلم يذكر تجري أو غير آسن أو أي قرينة أخرى تحدد معنى واحد للنَهَر وإنما كل المعاني مُرادة.

في سورة يوسف قال تعالى على لسان إخوة يوسف مخاطبين أباهم يعقوب (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {85}). استخدمت كلمة (تفتأ) هنا بمعنى لا يزال وهي من أخوات كان (ما انفك، ما برح، ما زال، ما فتيء) ما زال تدل على الإستمرار والدوام (نقول ما زال المطر نازلاً) لكن يبقى السؤال لماذا اختار تعالى كلمة (تفت)9 دون غيرها من أخواتها التي قد تعطي نفس المعنى من الإستمرار والدوام؟ ونستعرض معنى كلمة فتيء في اللغة: من معانيها (سكّن) بمعنى مستمر لأنه عندما لا يسكن فهو مستمر، ومعناها أطفأ النار (يقال فتيء النار) ومن معانيها أيضاً نسي (فتئت الأمر أي نسيته). إذن كلمة (فتأ) لها ثلاثة معاني سكّن وأطفأ النار ونسي. وفاقد العزيز سكن بمجرد مرور الزمن فمن مات له ميت يسكن بعد فترة لكن الله تعالى أراد أن يعقوب لا ينسى ولا يكفّ بدليل قوله تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {84})، وفاقد العزيز كأنما هناك ناراً تحرق جنبيه ويقال (حرق قلبي) والنار التي بين جنبي يعقوب - عليه السلام - لم تنطفئ مع مرور الأيام ولم تزل النار ملتهبة مستعرة في قلب يعقوب - عليه السلام -، وهو لم ينسى وفاقد العزيز ينسى بعد فترة ولذا يدعو له المعزّون بالصبر والسلوان. إذن تفتأ جمعت كل هذه المعاني المرادة هنا في الآية ولا يؤدي أي لفظ آخر هذه المعاني مجتمعة غير هذه الكلمة. والقرآن الكريم لم يستعمل هذه الكلمة إلا في هذا الموضع في سورة يوسف واستعمل (يزال ولا يوال) كثيراً في آيات عديدة (ولا تزال تطّلع على خائنة منهم). ومن الغريب أن القياس أن يُقال (لا تفتأ) لأن استعمالها نفي أو شبه نفي. إذا لم تأتي بـ (لا) فهو نفي قطعاً كقول الشاعر (فلا والله أشربها حياتي) بمعنى لا أشربها قطعاً. وقولنا (والله أذهب) يعني لا أذهب. وهذه من مواطن النفي ولم تحذف الـ(لا) في جواب

القسم إلا في هذا الموطن في القرآن الكريم. فقد ورد قوله تعالى (فلا وربّك لا يؤمنون) لم تحذف الـ(لا) هنا ونسأل عن السبب؟ لماذا حذف الـ(لا) في الآية؟ لأن هذا القول قاله إخوة يوسف لكن هل هم أقسموا على أمر يعلمونه حق العلم ؟ كلا هم أقسموا على أمر يتصورونه فالأمر إذن ليس مؤكداً ولم يحصل أصلاً فالذكر آكد من الحذف ولذا لم تذكر (لا) في جواب القسم ولقد جاء في الآية ما يفهم المعنى بدون الحاجة لذكر (لا) ولأن الذكر آكد من الحذف ولأن الأمر ليس مؤكداً عند إخوة يوسف.
مثال آخر قوله تعالى في سورة التين (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ {8} ) ما المقصود بأحكم الحاكمين؟ تحتمل أن تكون من الحُكم أو من القضاء. وقد ورد في القرآن الكريم (ان احكم بينهم بما أنزل الله) تعني القضاء، وقوله تعالى (يقصّ الحقّ وهو خير الفاصلين) بمعنى الحُكم. فهي تحتمل أن تكون من القضاء أو من الحكمة وهي تحتمل أن تكون أقضى القضاة وتحتمل أن تكون أقضى الحكماء، وأحكم القضاة وأحكم الحكماء، فهي إذن جمعت أربع معاني في كل كلمة احتمالين في الحكمة والقضاء. وهذا كله محتمل وجائز وليس هناك قرينة تحدد معنى واحداً من هذه المعاني دون غيره إذن المراد كل هذه المعاني وهذا توسّع في المعنى في باب الألفاظ المشتركة.
* التوسّع في المعنى في الصيغ المشتركة:
في العربية أحياناً الصيغة الواحدة يجتمع بها أكثر من معنى مثل صيغة فعيل على سبيل المثال فهي قد تكون للمبالغة مثل (سميع) أو صفة مشبّهة مثل (طويل أو قصير) أو اسم مفعول مثل (قتيل أو أسير) إذن هذه الصيغة تحتمل عدة معاني. ومعروف في اللغة أن اسم المفعول من غير الثلاثي يشترك فيه المصدر واسم المكان واسم الزمان واسم المفعول وأحياناً يشترك فيه اسم الفاعل. مثال كلمة مختار، هل هي اسم اعل ؟ لا نعلم ما هي فقد تحتمل أن تكون مصدر بمعنى اختيار أو مكان الإختيار أو زمانه أو اسم فاعل أو اسم مفعول. فإذا قلنا (هذا مختارنا) يحتمل أن يكون هو الذي اخترناه أو اختيارنا أو زمان اختيارنا أو مكان اختيارنا. فالصيغة إذن تكون أحياناً مشتركة فإذا أردنا معاني الصيغ يكون توسع في المعنى وليس هناك قرينة.
مثال من القرآن الكريم في سورة القيامة قوله تعالى (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {12}). ما المقصود بالمستقر؟ هل هو بمعنى إلى ربك الإستقرار أو إلى مشيئته الإستقرار أي لا يستقرون إلى غيره أو هو موضع الإستقرار وهو الجنة أو النار فالله وحده هو الذي يحكم بين العباد، أو هو زمان الإستقرار بمعنى يبقون ما يشاء الله في المحشر ثم يأمر الله تعالى بالقضاء بينهم؟ والمقصود من هذه الآية كل المعاني المحتملة فالإستقرار إليه ومكان وزمان الإستقرار إليه فإليه المستقر إذن هي جمعت ثلاثة معاني : المصدر واسم المكان واسم الزمان وهي كلها مرادة مطلوبة وليس هناك قرينة تصرف إلى أحد هذه المعاني فأصبحت إذن من باب التوسّع في المعنى.

مثال آخر: ما المقصود بكلمة (حكيم) في قوله تعالى في سورة يس (يس والقرآن الحكيم) وقوله تعالى (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)؟ يحتمل أن تكون بمعنى محكم (اسم مفعول) كما في قوله تعالى (كتاب أُحكمت آياته) (ومنه آيات محكمات) فهو محكم ، وقد يكون مبالغة في الحكم لأنه حاكم على غيره ومهيمن على غيره من الكتب والأحكام (مصدقاً لمل بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) أو هو صفة مشبّهة من الحكمة فهو ينطق بالحكم ويأتي بها. كل هذه المعاني مُرادة ولم يأتي بقرينة تصرف إلى معنى من هذه المعاني وهذا ما يُسمى التوسع في المعنى.
مثال آخر قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمّة). ما المقصود بكلمة (أمّة)؟ في اللغة لها احتمالان والمشهور هو أنها الجيل من الناس ولها عنى آخر فهي على وزن فُعلة من أمّ يؤمّ. والفُعلة هكذا هي اسم مفعول له أوزان كثيرة نقول هو سُبّة إذا كان يُسبّ كثيراً أو صُرعة إذا كان يُصرع كثيراً ولُعنة الذي يُلعن كثيراً وضُحكة هو الذي يضحك منه الناس ويُهزأ به. وكذلك لدينا فُعَلَة وهي صيغة مبالغة مثل حُطَمَة وهي اسم فاعل فنقول هو صُرَعة أي الذي يَصرع كثيراً ، وهُمَزة الذي يسخر من الناس وضُحَكة هو الذي يضحك من الناس، فما المقصود بأمة في هذه الآية؟ والمقصود أن إبراهيم - عليه السلام - كان عنده من الخير ما عند أمّة أو جيل من الناس وهو أيضاً إمامهم وأمّة من معانيها إمام ومأموم وقد قال تعالى في آية أخرى (إني جاعلك للناس إماما) إذن أمّة في هذه الآية فيها احتمالين أن عنده من الخير ما عند جيل من الناس وهو يؤمّ الناس وإمام لهم ولو قال إمام لنصّ على معنى واحد دون الآخر لكن اختيار كلمة (أمّة) تدل أن المقصود والمُراد هو المعنيين لهذه الكلمة فصار هذا اتساعاً في المعنى.

مثال آخر قوله تعالى في سورة البقرة (ولا يُضارّ كاتب ولا شهيد) ونسأل كلمة (ضارّ) هل هي مبني للفاعل او المفعول؟ نقول هي تحتمل الإثنين ولو أراد التنصيص لفكّ الإدغام كما في قوله تعالى (ومن يشاقق الله ورسوله) وقوله (ومن يرتدد منكم عن دينه) بمعنى أنه لو أراد إسم الفاعل لقال (يُضارِر) ولو أراد إسم المفعول لقال (يُضارَر). والله تعالى أراد الإثنين معاً ومعنى الآية أنه نهى الكاتب والشهيد أن يضُرّا غيرهما إما بكتم الشهادة أو الإمتناع عن الحضور لها أو تحريفها وأراد المعنى الآخر وهو نهى أن يقع الضرر على الكاتب والشهيد ممن يضغطون عليهم لتغيير الشهادة أو تبديلها أو الإمتناع عنها. إذن المطلوب منع الضرر من الكاتب والشهيد ومنعه عنهما أيضاً في نفس الآية وبدل أن يقول ولا يُضارَر ولا يُضارِر كاتب ولا شهيد جاء بالصيغة التي تحتمل المعنيين وهي كلمة (يُضارّ).

ومثل المثل السابق قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {233}). هل هي مبنية للفاعل أو المفعول؟ من المحتمل أن تضر الزوجة زوجها بزلدها ومن المحتمل أن يضُر الزوج زوجته بولده فأراد تعالى المعنيين لكيلا يقع الضرر من أحدهما على الآخر فجاء بصيغة تدل على المعنيين وهذا من باب التوسع في المعنى. ولقد تفرّد القرآن الكريم باختيار التعبير الأعلى في المعنى المُراد وفي المكان الذي يقتضيه هذا المعنى ومن هنا إعجازه الذي تحدّى به العرب أهل اللغة والفصاحة فعجزوا عن الإتيان ولو بسورة واحدة من مثله.
* التوسّع في المعنى في الجمع بين الألفاظ والصيغ المشتركة ذات الدلالات المختلفة:
من مواطن التوسّع في القرآن الكريم الجمع بين الألفاظ والصيغ ذات الدلالات المختلفة. ونأخذ مثال من غير القرآن أولاً لو قلنا أعطيته عطاءً حسناً. فعل أعطى مصدره الإعطاء وليس العطاء كصيغة أفعل افعال مثل أكرم إكرام لو قلنا أعطيته إعطاءً لكان واضحاً لأن مصدر الفعل أعطى إعطاءً أما العطاء فهو اسم المصدر بمعنى الإعطاء أو المال والعطاء يحتمل معنيين إعطاء حسن ومال حسن أما قولنا أعطيته إعطاء لدلّ المعنى على المصدر فقط أي الإعطاء الحسن فقط.
(1/110)

ونأخذ مثالاً من القرآن قوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) الفعل أقرض مصدره إقراضاً والفعل الثلاثي قرَض مصدره قرضاً. فجاء بالفعل الرباعي (يقرض) ولم يأت بمصدره إنما جاء بمصدر الفعل الثلاثي (قرضاً). ولو رجعنا إلى معنى القرض في اللغة فهو يعني المال والإقراض إذن القرض في الآية تحتمل المعنيين، فلو كان القصد الإقراض لكان إعرابها مفعول مطلق، ولو كان المقصود المال لكان إعرابها مفعول به. والمعنى المُراد من الآية الكريمة (من ذا الذي يقرض الله إقراضاً حسناً أي خالص النية لله محتسباً الأجر من الله، ومالاً حسناً أي طيباً حلالاً) فهناك إذن إقراض حسن ومال حسن ولما قال تعالى قرضاً حسناً جمع بين الأمرين معاً إقراضاً حسناً ومالاً حلالاً طيباً.
مثال آخر في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة النساء (يريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيدا): أضلّ يُضلّ مصدره الإضلال والضلال مصدر فعل ضلّ. وقد جاء في آية أخرى أيضاً (فقد ضلّ ضلالاً بعيدا)، وقد جاء بالفعل من بناء ولم يأتي بمصدره وإنما جاء بمصدر الفعل الثلاثي (ضلّ) نسأل لماذا؟ لأن الشيطان يريد أن يبدأ مرحلة أن يضل الإنسان ولكن لا يريد أن يتابع وإنما يريد الإنسان أن يتم ويكمل المرحلة فيبتدع من وسائل الضلال ما لا يعلمه الشيطان. لو جاء في الآية إضلال لكان هذا كله من الشيطان وحده ولا يتابع فالشيطان يضع الإنسان على طريق الضلال ويذهب إلى مكان آخر أما إذا جاء بكلمة ضلال فهي تعني أن الشيطان فهو يبدأه ويكمله الإنسان فأراد سبحانه المعنيين أن الشيطان يبدأ بالضلال والإنسان يُكمل ما بدأه الشيطان ويبتدع من طرق الضلال ما يبتدع. إذن معنى الإضلال هو من الشيطان وحده أما الضلال فالشيطان يبدأ والإنسان يُكمل الطريق فالشيطان والإنسان مشتركين في عملية الضلال.

ومثال آخر في قوله تعالى (وتبتّل إليه تبتيلا) القياس أن يقال تبتّل تبتّلاً أنما في الآية جاء بالفعل ولم يأت بمصدره وإنما جاء بمصدر فعل آخر ليجمع بين أمرين. (صيغة تفعّل تفيد التدرج مثل تجرّع الماء أي جرعة جرعة وتحسّر فيها التدرج والتكلف) ومثلها تجسّس وتحسّس وكسر وكسّر أي جعله كسرة كسرة وقطع وقطّع تفيد التكثير لأن صيغة فعّل تفيد التكثير. فهو الآن في قوله تعالى (وتبتّل إليه تبتيلا) جمع بين المعنيين التدرج والتكلف والمبالغة والتكثير ووضعهما وضعاً تربوياً عجيباً يبدأ بالتدرج ثم ينتهي بالتكثير فالتبتّل هو الإنقطاع إلى الله في العبادة وقد علّمنا تعالى أن نبدأ بالتدرج في العبادة شيئاً فشيئاً ثم ندخل في التكثير ولا ندخل في العبادة الكثيرة مباشرة لأن التدرج في العبادة يؤدي إلى الكثرة فيها فيما بعد وهذه هي الطريقة التربوية للعبادة تبدأ بالتدرج وتحمل نفسك على العبادة شيئاً فشيئاً ثم تنتهي بالتكثير والكثرة في العبادة. والتدرج والتكلف جاء بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد (تبتّل)ثم جاء بالصيغة الإسمية الدالة على الثبوت (تبتيلا) فبدل أن يقول تبتّل إليه تبتّلاً وبتّل نفسك إليه تبتيلا وهذه صياغة فنية تربوية عجيبة وقد جمع في الآية عدة أمور بيانية في التعبير. والعرب قديماً كانوا يفهمون هذه البلاغة بالفطرة لكنهم عجزوا عن الإتيان بالصيغة التي جاء بها القرآن الكريم وهذا هو التحدي والإعجاز في القرآن.

مثال آخر قوله تعالى (مالك الملك) هو مالك من التملّك ومن المِلك (الملكية) والمُلك من الحكم. مع فرعون قال تعالى (أليس لي ملك مصر) بمعنى له الحكم وليس له المِلك. أما لله تعالى مالك الملك تعني أن الملك ملكه وهو يملكه ملكاً كما يملك المالك، فالمُلك هو مِلك الله تعالى يتصرف به تصرّف المالك لأنه ملكه وحده سبحانه فإذن جمع تعالى بين الملكية وبين الحكم. والمالك يتصرف في ملكه ما لا يتصرف فيه الملِك لأن الملِك له تصرف عام آخر أما المالك فله تصرف خاص. وقوله تعالى (مالك الملك) جمع الأمرين الملكية والتحكم كما نقرأ في سورة الفاتحة (ملك يوم الدين) في قراءة و(مالك يوم الدين) في قراءة أخرى.
(وأنبتها نباتاً حسناً) في الثناء على مريم قال تعالى وأنبتها نباتاً حسناً ولم يقل إنباتاً حسناً لأنه تعالى أراد أن يُثني عليها وعلى معدنها الكريم. يقال أنبت إنباتاً ومريم عليها السلام أنبتها تعالى فنبتت نباتاً حسناً فطاوعت وقبلت أي أن لها فضل في هذا ولو قال تعالى إنباتاً لكان كله عملية لله وحده وليس لمريم أي فضل بمعنى أنه تعالى أنبتها كما يشاء هو لكن الله تعالى أراد أن يثني على مريم ويجعل لها فضلاً في هذا الإنبات فقال تعالى (وأنبتها نباتاً حسناً) أي أنه تعالى أنبتها فنبتت نباتاً حسناً وطاوعت أمر ربها وقبلت وكان من معدنها ما جعلها تنبت نباتاً حسناً. وقد أراد تعالى أن يجمع بين الأمرين أنه تعالى أنبتها كما يشاء وأراد من باب الثناء أن يجعل لها فضلاً في هذا من طيب معدنها وطواعيتها فقال (وأنبتها نباتاً حسناً).
* من مواطن التوسع في المعنى: العدول من تعبير إلى تعبير:

هذا في القرآن الكريم كثير وهو ترك تعبير إلى تعبير آخر ويحتمل أكثر من وجه إعرابي وأكثر من معنى. كما في قوله تعالى (ولا تشركوا به شيئا) فما المقصود بـ(شيئا)؟ هل هو شيء من الأشياء مما يُشرك الناس به من أوثان وغيرها وعنده يُعرب مفعول به أو لا تشركوا به شيئاً من الشرك لأن الشرك أنواع الشرك الأصغر والشرك الأكبر وتعرب حينها مفعول مطلق، فما المقصود؟ كلمة (شيئا) تحتمل المعنيين أي لا تشركوا بالله شيئاً من الأشياء ولا شيئاً من الشرك فنهانا سبحانه عن الشرك به شيئاً من الأشياء أو شيئاً من الشرك لأن هناك من أنواع الشرك ما هو أخفى من دبيب النمل. والمفعول المطلق المصدر ينوب عنه أشياء كثيرة فقد تنوب عنه صفته والضمير والمصدر. (شيئاً) أحياناً الإسم العادي المادي نفسه مثال لما نقول طعنه سكيناً عند النحاة هو مفعول مطلق بمعنى طعنه بسكين فالمفعول المطلق (سكينا) ينوب عن المصدر وهو الآلة.
وكذلك قوله تعالى (ولا تظلمون فتيلا) الفتيل هو الخيط في شق النواة فهل المقصود شيئاً ماديا (مفعول به) أو شيئاً من الظلم وإن كان فتيلا؟ إذا أردنا المصدر تعرب مفعول مطلق بمعنى (ولا تظلمون شيئاً من الظلم وإن كان قليلاً) وهنا أراد تعالى الأمرين والمعنيين معاً بمعنى أنه لا يظلمنا لا قليلاً من الأشياء ولا شيئاً من الظلم وإن كان قليلا. ولو أراد تعالى التحديد والتخصيص بمعنى واحد لفعل كما في قوله تعالى (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) هنا حدد معنى واحداً أما عندما يريد أكثر من معنى ويريد التعميم يأتي بصيغة تحتمل عدة معاني وهذا ما يُسمى التوسع في المعنى في القرآن الكريم.

مثال آخر قوله تعالى (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا) : ما المقصود ضحكاً قليلاً أو وقتاً قليلاً؟ أو بكاء كثيراً أو وقتاً كثيراً؟ الآية تحتمل كل هذه المعاني أراد تعالى معنى المصدر والظرف في آن معاً هو أراد فليضحكوا ضحكاً قليلاً وقتاً قليلاً وليبكوا بكاء كثيراً وقتاً كثيراً ولو أراد معنى واحداً لحدد الظرف أو المصدر لكنه جمع بين الظرف والمصدرية في الآية الواحدة. والإعراب يختلف هنا لو أراد ضحكاً قليلاً تكون قليلاً مفعول مطلق ولو أراد وقتاً قليلاً لكانت ظرفاً وكذلك لو أراد بكاء كثيراً لكانت كثيراً مفعول مطلق ولو أراد وقتاً كثيراً لكانت ظرفاً إذن أراد تعالى أن يجمع بين الحدث القليل والزمن القليل (فليضحكوا قليلاً) والحدث الكثير والزمن الكثير (وليبكوا كثيراً). ونلاحظ أنه في التقييد حكمة وفي التكثير حكمة أيضاً.
ومثال آخر قوله تعالى (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) هل المقصود قليل من الفقه أو قليل من المسائل والأمور. الآية تحتمل المعنيين قليل من الفقه وقليل من المسائل ومثل هذه الآية قوله تعالى (وبصدّهم عن سبيل الله كثيرا) هل المقصود كثير من الصدّ أو كثير من الخلق أو كثير من الوقت؟ الآية تحتمل كل هذه المعاني والسياق هو الذي يحدد كيف نتناول هذه الآيات وهو الذي يحدد المراد من الآية.
ومثال آخر قوله تعالى (وادعوه خوفاً وطمعا) يحتمل أن يكون مفعول لأجله أو حال بمعنى خائفين طامعين ويمكن أن يكون مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره ندعوه خائفين وندعوه ونحن نخاف خوفاً وندعوه من أجل الطمع أي ينبغي أن يكون الطمع دافع لنا، وفي حالة طمع (حال) ونحن نطمع طمعاً (مفعول مطلق) للطمع وطامعين وحال طمع فجمعها سبحانه في الآية (وادعوه خوفاً وطمعا) والتعابير كلها مرادة.

وقوله تعالى (إليه يصعد الكلِم الطيب والعمل الصالح يرفعه) : ما المقصود؟ تحتمل خياران الأول: العملَ الصالح والثاني العملُ الصالح. فلماذا اختار العملُ الصالح يرفعه؟ ولم يقل العملَ الصالح؟ نفهم الآية أولاً قوله تعالى (والعملُ الصالح يرفعه) جملة إسمية من الذي يرفع؟ هو مرفوع يرفعه الله تعالى ؟ هل هو يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى؟ يحتمل المعنيين في هذا التعبير ويكون لدينا معنيين مقبولين: العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب عند الله صاعداً إليه والله تعالى هو الذي يرفع العمل الصالح. ولو قال تعالى (والعملَ الصالح يرفعه) لا يمكن إلا أن يكون لها معنى واحداً هو أن الله تعالى يرفع العملَ الصالح) ولتحدد المعنى وهذا هو العدول من النصب إلى الرفع وهو عدول بياني لكسب معنيين وليس مصادفة أو اعتباطاً.

للدكتور فاضل السامرائي







ابداع الخالق


ابداع الخالق


الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

ابو حازم يعظ سليمان بن عبد الملك بكلمات بسيطة رائعة ... اقرأ وتدبر.

بين أبي حازم وسليمان بن عبد الملك

حين قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وهو يريد مكة, أرسل الى عالمها الجليل أبي حازم فلما دخل عليه قال سليمان: يا أبا حازم, ما لنا نكره الموت؟.
فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم, فكرهتم أن تنقلوا من العمران الى الخراب.
فقال سليمان: كيف القدوم على الله؟.
قال: يا أمير المؤمنين, أما المحسن كالغائب يقدم على أهله, وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
فبكى سليمان وقال: ليت شعري, ما لي عند الله؟.
قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله حيث قال:{ انّ الأبرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم}.
قال سليمان: فأين رحمة الله؟.
قال: قريب من المحسنين.
قال: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟.
فقال: أهل البر والتقوى.
قال: فأي الأعمال أفضل؟.
فقال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم.
قال: أي الكلام أسمع؟.
فقال: قول الحق عند من تخاف وترجو.
قال: فأي المؤمنين أخسر؟.
فقال: رجل خطأ في هوى أخيه وهو ظالم, فباع آخرته بدنياه.
قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟.
فقال: أو تعفيني؟.
قال: لا بد, فانها نصيحة تلقيها اليّ.


فقال: ان آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة المسلمين ولا رضا منهم, حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا فلا شعرت بما قالوا وما قيل لهم.

فقال رجل من جلسائه: بئسما قلت.
قال أبو حازم: ان الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
فقال سليمان: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟.
قال: تدع الصلف وتستمسك بالعروة وتقسم بالسويّة.
قال: كيف المأخذ به؟.
قال: أن تأخذ المال في حقه وتضعه في أهله.
قال: يا أبا حازم ارفعاليّ حوائجك؟.
قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة؟.
قال:ليس ذلك اليّ.
قال: فلا حاجة لي غيرها.
ثم قام فأرسل اليه بمائة دينار فردها اليه ولم يقبلها.

(وفيات الأعيان 2\423).

من الكتاب : صور من ابتلاء العلماء لوحيد عبد السلام بالي

ابداع الخالق

ابداع الخالق

الاثنين، 28 ديسمبر 2015

ابداع الخالق

ابداع الخالق

موضوع التشابه والإختلاف في القرآن الكريم

موضوع التشابه والإختلاف في القرآن الكريم
قد يتغير في الآية كلمة من سياق إلى سياق ومن سورة إلى سورة. وردت قصة سيدنا موسى في سور متعددة في القرآن الكريم وبين قصة موسى - عليه السلام - في سورة البقرة وقصته في سورة الأعراف تشابه واختلاف في الألفاظ كما هو حاصل في كلمتي (انفجرت) و(انبجست). فقد يحصل اختلاف في التعبير أحياناً في مكان عن مكان أو في قصة عن قصة فلماذا الإختلاف؟
الحقيقة أنه ليس في القرآن الكريم اختلاف في القصة وإنما يختلف التعبير عن مشهد من مشاهد القصة بين سورة وسورة لأن كل سورة تأتي بجزئية من القصة نفسها تتناسب وسياق الآيات في السورة التي تذكر فيها. فالمشاهد ملها وقعت للقصة نفسها ولا تختلف في الفحوى والحقيقة. ولعل من أبرز الأمثلة على هذا التشابه والإختلاف ما جاء في سورتي البقرة والأعراف في قصة موسى - عليه السلام - مع بني إسرائيل.

سورة البقرة: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60})
سورة الأعراف: ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160}).
فقد جاء في سورة البقرة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60}) وجاء في سورة الأعراف ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160}).

والسؤال ماذا حدث فعلاً هل انفجرت أو انبجست؟ والجواب كلاهما وحسب ما يقوله المفسرون أن الماء انفجرت أولاً بالماء الكثير ثم قلّ الماء بمعاصيهم وفي سياق الآيات في سورة البقرة الذي يذكر الثناء والمدح والتفضّل على بني إسرائيل جاء بالكلمة التي تدل على الكثير فجاءت كلمة (انفجرت) أما في سورة الأعراف فالسياق في ذمّ بني إسرائيل فذكر معها الإنبجاس وهو أقلّ من الإنفجار وهذا أمرٌ مشاهد فالعيون والآبار لا تبقى على حالة واحدة فقد تجفّ العيون والآبار فذكر الإنفجار في موطن والإنبجاس في موطن آخر وكلا المشهدين حصل بالفعل.
وبعضهم قال جاء بالفاء للترتيب والتعقيب في (فانفجرت) و(فانبجست) وهذه الفاء تُسمّى فاء الفصيحة وهناك عطف والعطف قد يكون أكثر من معطوف عليه. (فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا) لم يقل سبحانه وتعالى (فضرب) كذلك في قوله تعالى (فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذّبوا ) هل ذهبا أم لم يذهبا؟ ولم يفصّل في الآيات هل أبلغا أم لم يبلغا؟ وهذه الفاء إذن هي فاء الفصيحة التي تدلّ على أن هناك محذوف ولكن المعنى واضح فهي أوضحت معاني متعددة. وقد تكرر استخدام هذه الفاء في مواطن عديدة في القرآن الكريم منها في قوله تعالى في سورة الإسراء (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16}) وفي قصة سليمان في سورة النمل (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ {28} قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29}) كان في القصة إيجاز وحذف لكن هذا لم يمنع وضوح المعنى فالمفروض أن الهدهد أخذ الكتاب وذهب به وألقاه عند بلقيس وانتظر لكن بعض هذه المشاهد حذف مع بقاء المعنى واضحاً.

نعود لاستعمال (انفجرت) و(انبجست) في سورتي البقرة والأعراف وإذا لاحظنا سياق الآيات في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ {59} وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60})
أما سياق الآيات في سورة الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {161}) يمكن ملاحظة ما يأتي:
سورة البقرة ... سورة الأعراف

سياق الآيات والكلام هو في التكريم لبني إسرائيل فذكر أموراً كثيرة في مقام التفضيل والتكرّم والتفضّل (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ {49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {50}) و (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47}) ... السياق في ذكر ذنوبهم ومعاصيهم والمقام مقام تقريع وتأنيب لبني إسرائيل (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138}) والفاء هنا تفيد المباشرة أي بمجرد أن أنجاهم الله تعالى من الغرق أتوا على قوم يعبدون الأصنام فسألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً مثل هؤلاء القوم.
قوم موسى استسقوه فأوحى إليه ربه بضرب الحجر (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ) وفيها تكريم لنبيّ الله موسى - عليه السلام - واستجابة الله لدعائه. والإيحاء أن الضرب المباشر كان من الله تعالى. ... فموسى هو الذي استسقى لقومه (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ)
(كلوا واشربوا) والشرب يحتاج إلى ماء أكثر لذا انفجرت الماء من الحجر في السياق الذي يتطلب الماء الكثير ... (كلوا من طيبات ما رزقناكم) لم يذكر الشرب فجاء باللفظ الذي يدل على الماء الأقلّ (انبجست) 

جعل الأكل عقب الدخول وهذا من مقام النعمة (ادخلوا هذه القرية فكلوا) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. ... لم يرد ذكر الأكل بعد دخول القرية مباشرة وإنما أمرهم بالسكن أولاً (اسكنوا هذه القرية وكلوا)
(رغداً) تذكير بالنعم وهم يستحقون رغد العيش كما يدلّ سياق الآيات. ... لم يذكر رغداً لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.
(وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة) بُديء به في مقام التكريم وتقديم السجود أمر مناسب للأمر بالصلاة الذي جاء في سياق السورة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43}) والسجود هو من أشرف العبادات. ... (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً) لم يبدأ بالسجود هنا لأن السجود من أقرب ما يكون العبد لربه وهم في السياق هنا مبعدين عن ربهم لمعاصيهم.
(نغفر لكم خطاياكم) الخطايا هم جمع كثرة وإذا غفر الخطايا فقد غفر الخطيئات قطعاً وهذا يتناسب مع مقام التكريم الذي جاء في السورة. ... (نغفر لكم خطيئاتكم) وخطيئات جمع قلّة وجاء هنا في مقام التأنيب وهو يتناسب مع مقام التأنيب والذّم في السورة.
(وسنزيد المحسنين) إضافة الواو هنا تدل على الإهتمام والتنويع ولذلك تأتي الواو في موطن التفضّل وذكر النعم. ... (سنزيد المحسنين) لم ترد الواو هنا لأن المقام ليس فيه تكريم ونعم وتفضّل.
(فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم) ... (الذين ظلموا منهم) هم بعض ممن جاء ذكرهم في أول الآيات
(فأنزلنا على الذين ظلموا) ... (فأرسلنا ) أرسلنا في العقوبة أشدّ من أنزلنا، وقد تردد الإرسال في السورة 30 مرة أما في البقرة فتكرر 17 مرة
(بما كانوا يفسقون) ... (بما كانوا يظلمون) والظلم أشدّ لأنه يتعلّق بالضير

وقد ورد في القرآن الكريم مواضع أخرى عديدة جاء فيها التشابه بين قصتين مع اختلاف في اختيار الألفاظ بما يتناسب مع السياق والمهم أن نعلم أن كل المشاهد من القصة قد حصلت بالفعل ومثال على ذلك ما جاء في سورة البقرة (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {80}) وسورة آل عمران (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {24}) فنسأل هل قالوا أياماً معدودة أو أياماً معدودات؟ معدودات جمع قلّة وهي تفيد القلّة أما معدودة فهي جمع كثرة وهي أكثر من معدودات (والقاعدة العامة أنه إذا وصفنا الجمع غير العاقل بالمفرد فإنه يفيد الكثرة) ومثال ذلك (أنهار جارية) و(أنهار جاريات) الجارية أكثر من حيث العدد من الجاريات وأشجار مثمرة أكثر من مثمرات وجبال شاهقة أكثر من شاهقات. فماذا قالوا بالفعل؟ إنهم قالوا الإثنين معاً ففي سورة البقرة لمّا ذُكّروا بما فعلوه من آثام (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75}) قالوا معدودة فهم يحرّفون الكلم بعدما عقلوه وهناك أمور عديدة يعرفون بها ويذكرونها وقال تعالى يتوعدهم (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ {79}) فجاء ردّهم (أياماً معدودة)، أما في سورة آل عمران ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ 

إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ {23}) لم يكن هناك تذكير بالأفعال والتوعّد بالحساب فلما ذُكّروا بها قالوا أياماً معدودات لأن الآثام التي ذُكروا بها أقلّ . ومنهم من يقول أن قسماً قالوا (أياماً معدودة) والقسم الآخر قال (أياماً معدودات).
(إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7}) سورة النمل.
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {29}) سورة القصص.
ومثال آخر على التشابه والإختلاف في القرآن الكريم ما جاء في سورتي النمل والقصص في قصة موسى - عليه السلام - أيضاً ففي سورة النمل قال تعالى (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7}) وفي سورة القصص قال تعالى (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {29}) الخط البياني في السورتين متسع ولكن ندرسه من ناحية التشابه والإختلاف لأن بينهما اختلافات عدة. 

أولاً في سورة النمل جاء بالسين في (سآتيكم) والسين تفيد التوكيد، أما في القصص فجاء بـ (لعلّي آتيكم) وهي للترجّي. فماذا قال موسى لأهله هل قال ترجّى أم قطع؟ هل قال أحدهما أم ماذا؟ الحقيقة أن هذا يحصل في حياتنا يقول أحدنا سآتي اليوم لعلي أستطيع بمعنى (أقطع ثم أترجّى) والمشهد نفسه هو الذي يفرض الترجي أو القطع. قد نقطع ثم يأتي أمور تحول دون ذلك فنقول لعلّي للترجي أو العكس لكن يبقى لماذا الإختيار أي اختيار الترجي في سورة والقطع في سورة أخرى؟
المقام كله في سورة النمل مبني على القطع والقوة والتمكين أما سورة القصص فهي مبنيّة على الخوف من قبل ولادة موسى. وقد قال تعالى في سورة النمل (أو آتيكم بشهاب قبس) وهذا في مقام القطع لأن الشهاب هو شعلة من النار والشهاب أنفع في الدفء والإستنارة، أما في القصص فقال تعالى (أو جذوة من النار) والجذوة ليس بالضرورة أن يكون فيها نار وهذا أنسب لجو وسياق السورة المبني على الخوف. وهناك اختلافات كثيرة أخرى بين السورتين، لكن المهم القول أن موسى - عليه السلام - قال التعبيرين لكن اختيار كل تعبير في مكانه يناسب المقام والسياق التي ورد فيه التعبيرين.
ونسأل هل قال موسى هذا الكلام حقاً أم الآيات هي عن رب العالمين؟ نقول أن القرآن هو ترجمة للأحداث والأقوال لكن مصوغ صياغة فنّية عالية وهو أدق ترجمة فنية للأحوال وكلها صحيحة مائة في المائة وبتعبيرات مناسبة للسياق. وقد نقرأ ترجمات من لغات أخرى في نفس الموضوع وكل ترجمة تختلف عن الأخرى بحسب الذي يترجم ولأن الفحوى واحد وهذه الترجمات ليست كلها بنفس النوعية والدقة والبلاغة. فعلى سبيل المثال بدل أن نقول لشخص ما أكبر منا سنّاً أنه فاجر نقول له مسرف فنختار الصيغة التي تليق بالمقام وبدل أن نقول متهور نقول مسرع وهكذا. 

وكذلك نسأل هل قال برهانان أو تسع آيات؟ قال تعالى في سورة القصص (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ {32}) أما في سورة النمل فقال تعالى (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ {12}). والجواب أنه قال كلاهما لأن في سورة القصص الأمر لموسى بالذهاب إلى فرعون وملئه أي خاصة مجلسه وهنا ذهب بآيتين هما العصا التي تنقلب حية واليد التي تخرج بيضاء. أما في سورة النمل فالأمر إلى موسى بالذهاب إلى فرعون وقومه وهنا ذكر تسع آيات لأن الحشد أكثر وهو القوم احتاج ذكر أكثر الآيات فجاء ذكر تسع آيات. وأما سبب الإختيار فيعود للقصة ففي سورة القصص قلنا أنها مبنية على الخوف أما في سورة النمل فهي مبنية على القطع والقوّة.
سورة الذاريات: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ {26}).
سورة الحجر: (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ {51} إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ {52} قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {53}).
فلماذا لم يرد السلام في الحجر ولم يستكمل القصة كما في سورة الذاريات؟ هذا ليس اختلافاً في القصة ولكن اختلاف في ذكر المشاهد للقصة.

في سورة الذاريات قال تعالى (هل أتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين) ذكر المكرمين فذكر ما يقتضي الإكرام وردّ التحية والإكرام، أما في سورة الحجر لم يذكر التكريم فلم يحتاج المقام ذكر ردّ إبراهيم.
فقد نقول ذهبنا إلى آل فلان وسلّمنا عليهم وبتنا عندهم ليلة ورجعنا ولم نقل ردّوا علينا السلام وطلبوا منا أن نبقى عندهم فوافقنا ونذكر كل التفاصيل التي حصلت. وقد نذكر في مقام آخر ذهبنا ورحّبوا بنا وأقسموا أن نبات عندهم وأصروا أن نُفطر عندهم (وفي هذا وصف دقيق حسب المقام ولم نقل سلّمنا عليهم لكن لم يؤثر على المعنى) وإلا كيف رحبوا بنا إذا لم نسلّم عليهم لكن المقام يُحدد ماذا نقول: هل نتحدث عن ضيافتهم أو عن سفرنا نحن؟
نعود إلى الآيات في سورة الذاريات فقد ذكر تعالى المكرمين وكل الأمور المتعلقة بالإكرام ومنها ردّ السلام والمجيء بالعجل وتقديمه لهم. وقد وصف الله تعالى نبيه إبراهيم أنه أوجس منهم خيفة (وهذا شعور في نفسه) أما في سورة الحجر فقال تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام - (إنا منكم وجلون) أي خاطبهم مباشرة ولا نقول في مقام التكريم إني خائف منكم. فكل الأمور حصلت في القصة لكن الله تعالى اختار لكل سورة مشهداً وألفاظ وتعبيرات تناسب سياق الآيات والحالة التي ذكرت فيها فكل قصة في السورتين جاءت بالتعبير المناسب والحالة المناسبة.
ونسأل لماذا يكون هذا في اللغة؟ البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال أو السياق. فلا يمكن مثلاً في مقام الفرح أن نأتي بقصيدة حزن كما قال الشاعر في وصف دار دخلها الخليفة لأول مرة (يا دار ما فعلت بك الأيام) وقد عابوا على هذا الشاعر مقولته هذه. فيجب أن نحدد أين المقصود توجيه الكلام؟ فهناك عدة أمور نريد التركيز عليها والقصة الواحدة لها عدة جوانب فأي الجوانب نريد أن نركّز عليها فنأتي بجزئياتها المناسبة لهذا الجانب أو غيره.

وقد حاول المستشرقون أن ينتقدوا القصة في القرآن الكريم فقالوا إنه في قصة موسى - عليه السلام - وردت 11 آية (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) فقالوا أنه لو اجتمعت الإنس والجنّ فهم قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن ولكنهم جهلوا أن القصة الواحدة في القرآن قد يُعبّر عنها بصور مختلفة لكن اختيار الصورة المعجزة هو اختيار القرآن الكريم وهناك شاعر أمثل من شاعر وقد يعبّرون جميعاً عن نفس المعنى ونفس المشهد. وقد يُصاغ المشهد الواحد بعدة تعبيرات ولكنها ليست كلها بنفس درجة البلاغة والفنّ. ففي قصة موسى - عليه السلام - قد يكتب فيها الكثيرون ولكن ليست كل هذه الكتابات متماثلة من حيث البلاغة والفنّ . فالقرآن لا يمكن أن يدانيه أحد من ناحية البلاغة واللغة والفن وكل تعبير يمكن أن يؤدّى بتعبير آخر فالقرآن فيه معجز وكذلك تحدّى القرآن المشركين أن يأتوا بسورة واحدة ولو كانت قصيرة مثل الكوثر. فلا يمكن صياغة سورة مثل سور القرآن الكريم حتى لو كان المحتوى فالقرآن معجز في هذا وسورة الكوثر وهي من ثلاث آيات فقط فيها من البلاغة والإختيارات العجيبة في التعبير (كما في اللمسات البيانية في سورة الكوثر).
فالمسألة إذن ليست مسألة قال هذا أو ذاك ولكنها ترجمة لما قال موسى - عليه السلام - فهو لمّا دعا ربّه دعاه بكلمات عرفها الله تعالى لأن موسى كان في لسانه عجمة (ولا يكاد يُبين) كما جاء على لسان فرعون والدليل قول موسى (هو أفصح مني لساناً) لما دعا ربه بأن يرسل معه هارون أخوه ولو قال هذا الدعاء شخص آخر لقاله بصيغة مختلفة، وهكذا صيغت العبارات في القرآن الكريم بكلام معجز وهي ترجمة دقيقة لما قاله موسى وإبراهيم - عليه السلام - وغيره من الأنبياء، حتى النقاش بين الرسل وقومهم كما حصل بين موسى وفرعون هي ترجمات دقيقة فنية لما حصل.


من كتاب لمسات قرآنية للدكتور فاضل السامرائي