السبت، 7 مايو 2016

من اخبار زبيدة زوجة هارون الرشيد

زبيدة بنت جعفر بن المنصور العباسي
هي امرأة هارون الرشيد وأم ولده محمد الأمين· كانت ذات معروف وخير وفضل ونفقة واسعة على البر وأصحاب الحاجات وقصة حجها وما فعلته في طريقها من الإحسان مشهورة في كتب التواريخ شهرة عظيمة فوق ما كان لها من شهرة الشرف والثروة الواسعة فإنها جمعت شرف الخلافة من أطرافها فأبوها ابن خليفة، وعمها المهدي خليفة، وزوجها أشهر الخلفاء وابنها خليفة أيضا، ولذلك قد كثرت عنها الحكايات والأخبار في كتب العرب· قال ابن الجوزي: إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار، وإنها أسالت المياه عشرة أميال بحط الجبال ونحت الصخور حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة· فقالت: اعملها ولو كلفت مشربة الناس دينارا، وكان لها مائة جارية تحفظن القرآن ولكل واحدة ورد عشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من قراءة القرآن· وقيل: كان اسمها أمة العزيز فلقبها جدها المنصور زبيدة لبضاضتها ونضارتها·
قال ابن الأثير: وكان مولد زبيدة بقصر حرب وهو قصر بناه حرب بن عبد الله من أكابر قواد المنصور حينما وجهه المنصور مع ولده جعفر أبي زبيدة ليكون نائبا عن مالك بن الهيثم في ولاية الموصل وهذا القصر بأسفل الموصل وتزوج بها الرشيد سنة 165 هجرية ،كان يحبها كثيرا ويكرمها غاية الإكرام، وكانت شديدة البر به والاحتفاظ على رضاه، ولم يكن يمنع عنها شيئا من كل ما تطلبه من نفقة وما يتعلق بها وبغيرها مما يسرها وينفعها غير أنها بعد تلك الكرامة والعزة والأبهة أصبحت بعد موت الرشيد في حالة سيئة من الكآبة والذل وخفض الجناح، وذلك لما وقع بين الأمين والمأمون من الفتن ولاسيما بعدما قتل ولدها الأمين في تلك الأثناء، وقد كتبت للمأمون بأبيات ترثي بها سوء حالها بعد فقد ولدها وهي:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفون ومحجر
وقد مسني ضير وذل كآبة ... وأرق عيني يا ابن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت قد مصابه ... فأمري عظيم منكر عند منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المتضير المقهر
وأرجو لما قد مر بي فقده ... فأنت لبيتي خير رب معمر
أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ... فما طاهر فيما أتى بمطهر

وذلك لأن طاهر بن الحسين هو الذي قام بحرب الأمين وكان السبب في قتله:
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وأخرب أدوري
يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أبدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر
وقالت زبيدة أم جعفر ترثي ولها الأمين:
أودي بألفين من لم يترك الناسا ... فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له ... أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئا أرعى النجوم له ... أخال سنته بالليل قرطاسا
والموت كان به والهم قارنه ... حتى سقاه التي أودى بها الكاسا
رزئته حين باهيت الرجال به ... وقد بنيت به للدهر أساسا
فليس من مات مردودا لنا أبدا ... حتى يرد علينا قبله ناسا

فلما قرأها المأمون بكى وقال: أنا الطالب بثأر أخي قتل الله قتلته، ثم إن المأمون عطف على زبيدة فجعل لها مكانا في قصر الخلافة وأقام لها الوظائف والخدم والجواري، وكانت حاضرة عند دخوله الغرفة التي زفت إليه بها بوران بنت الحسن، وطلبت لها بوران منه الإذن بالحج فأجابها إلى طلبها، وألبست بوران بيدها قسما من ملابسها· وأما ححجتها المشهورة فقيل: أنفقت فيها في بناء المساجد والصدقات ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وأجرت الماء من دجلة إلى عرفات، ثم إلى مكة حتى سقت أهلها -كما مر- وهذه مبالغة عظيمة فالماء الذي أجرته إلى مكة ليس من دجلة قيل: وأجرت نبع العرعار من جبل لبنان إلى بيروت حتى وصل إلى وادي المكلس فبنوا له طبقات فناطر حتى جرى الماء فوقها إلى جانبه الآخر وتطرق إلى بيروت لأنها كانت قد مرت من هناك في حجتها -المذكورة- فوجدت الماء قليلا وإلى الآن يقال لهذه القناطر: قناطر زبيدة والأرجح أن بانية هذه القناطر إنما هي زنوبية ملكة تدمر المعروفة باسم زبيدة أيضا ولها آثار كثيرة من مثل ذلك تدعى الزبيدية غالبا نسبت إليها منها بركة في طريق مكة بين العقيق والعذيب بها قصر ومسجد عمرتهما من مالها، ومحلات ببغداد مشهورة أيضا باسمها، ولكثرة مالها وسعة نفقتها ضرب المثل الحريري بقوله: "لو حبتك شيرين بجمالها وزبيدة بمالها"· ومما يحكى عن حلمها وحسن أخلاقها وفهمها أن أحد الشعراء مدحها بقصيدة يقول من جملتها:
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فهم الخدم بضربه وطرده وكانت هي خلف الستارة تسمعه فقالت: دعوه لأنه لم يرد إلا خيرا، ولكنه أخطأ الصواب، فإنه سمع شمالك أندى من يمين غيرك وقفاك أحسن من وجه سواك فظن أن الذي ذهب إليه من ذلك القبيل أعطوه ما أمل، ونبهوه على ما أهمل· وأخبارها كثيرة منها: أنه حصل جفاء بينها وبين المأمون يوما فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك وتأمره بأن يقول أبياتا تعطفه عليها فقال:
ألا إن ريب الدهر يدني ويبعد ... ويؤنس الآلاف طورا ويفقد
أصيبت بريب الدهر مني يدعلت ... فسلمت للأقدار والله أحمد
وقلت لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر لم يفقدا ومحمد
فلما سمع المأمون هذه الأبيات حسن موقعها عنده وأحسن إليها وبكى وقام من وقته إليها، وأكب عليها وقبلت يديه وقال لها: ما جفوتك تعمدا ولكن شغلت عنك بما لم يكن إغفاله؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك وأتم يومه عندها·

من كتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور

ليست هناك تعليقات: