الجمعة، 23 أكتوبر 2015

اسرار البيان في القرآن

القرآن هو تعبير بياني مقصود أي أن كل كلمة وكل حرف فيه وُضع وضعاً مقصوداً.
الذكر والحذف:
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان) وقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) البقرة) الآيتين جملتان وصفيتان فلماذا الحذف (فيه) في إحداها والذكر في الأخرى؟ السبب أن التقدير حاصل (يجزي فيه) لكن لماذا الحذف؟ الحذف يفيد الإطلاق ولا يختص بذلك اليوم. فالجزاء ليس منحصراً في ذلك اليوم وإنما سيمتد أثره إلى ما بعد ذلك اليوم وكلما يذكر الجزاء يحذف (فيه) (لا تجزي) و(لا يجزي)
أما في الآية الثانية فذكر (فيه) لأنه منحصر فقط في يوم الحساب وليس عموماً. وكذلك في قوله تعالى (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) اليوم منحصر في يوم القيامة والحساب لذا ذكر (فيه). وحذف (فيه) عندما كان اليوم ليس محصوراً بيوم معين.
__________
(1) وهذه محاضرة ألقاها الدكتور فاضل السامرائي ضمن فعاليات جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم عام 2002م
(1/1)

(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) يوسف) محذوف حرف النفي (لا) (تالله لا تفتأ). القاعدة : أنه إذا كان فعل مضارع مثبت لابد من حرف اللام فإن لم تذكر اللام فهو منفي مثال: والله أفعل (معناها لا أفعل) و والله لأفعل (معناها أثبّت الفعل) فلماذا حذف إذن؟ هذا هو الموطن الوحيد في القرآن الذي حُذف فيه حرف النفي جواباً للقسم. وقد جاء في القرآن قوله تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) النساء) (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) النحل). إنما آية سورة يوسف هي الوحيدة التي تفيد النفي ولم يذكر فيها حرف النفي لماذا؟ الذين أقسموا هم إخوة يوسف ومن المقرر في النحو أن الذكر يفيد التوكيد والحذف أقل توكيداً. فعلى ماذا أقسموا؟ أقسموا أن أباهم لا يزال يذكر يوسف حتى يهلك فهل هم متأكدون من ذلك؟ أي هل هم متأكدون أن أباهم سيفعل ذلك حتى يهلك وهل حصل ذلك؟ كلا لم يحصل.
في حين في كل الأقسام الأخرى في القرآن الأمر فيها مؤكد. أما في هذه الآية لا يؤكد بالحذف لحرف النفي مع أنه أفاد النفي.
فتأ: من معانيها في اللغة نسي وسكّن وأطفأ النار يقال فتأت النار والإتيان بالفعل (فتأ) في هذه الآية وفي هذا الموطن جمع كل هذه المعاني. كيف؟ المفقود مع الأيام يُنسى ويُكفّ عن ذكره أو يُسكّن لوعة الفراق أو نار الفراق في فؤاد وفي نفس من فُقد له عزيز. ولو اختار أي فعل من الأفعال الأخرى المرادفة لفعل فتأ لم تعطي كل هذه المعاني المختصة في فعل فتأ.
(1/2)

قال تعالى في سورة آل عمران (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) اللام في (ليعلم) هي لام التعليل ثم قال تعالى (يتخذ) عطف بدون لام ثم قال (ليمحّص) عطف وذكر اللام ثم قال (يمحق) عطف بدون ذكر اللام ، لماذا ؟ قلنا أن الذكر للتوكيد وما حذف أقل توكيداً وإذا استعرضنا الأفعال في الآية فهل كلها بدرجة واحدة من التوكيد والحذف؟
(وليعلم) الله تعالى يريد ذلك من كل شخص علماً يتحقق منه الجزاء لكل شخص. إذن هو أمر عام لجميع الذين آمنوا ومن غير الذين آمنوا فهو أمر ثابت مطلق لكل فرد من الأفراد.
(يتخذ) لا يتخذ كل المؤمنين شهداء فهذا الفعل ليس بدرجة اتساع الفعل الأول وهو ليس متعقلاً بكل فرد.
(ليمحص) متعلق بكل فرد وهذا يتعلق به الجزاء.
(يمحق) لم يمحق كل الكافرين محقاً تاماً فالكفر والإيمان موجودان.
إذن عندما يذكر اللام على وجه العموم والمقصود يكون كل فرد من الأفراد والحذف عكس ذلك.
قال تعالى (ولتبتغوا فضلاً من ربكم) في الحالتين ذكر اللام لأن الأمرين مطلوبين حتماً في هذه الحياة.
قال تعالى في سورة النساء (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)) وقال تعالى في سورة البقرة (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25))
(1/3)

ذكر الباء في الآية الأولى (بأن) وحذفها في الثانية (أن) مع أن التقدير هو (بأن) لماذا؟ لأن تبشير المنافقين آكد من تبشير المؤمنين ، ففي السورة الأولى أكّد وفصّل في عذاب المنافقين في عشرة آيات من قوله (ومن يكفر بالله وملائكته). أما في الآية الثانية فهي الآية الوحيدة التي ذكر فيها كلاماً عن الجزاء وصفات المؤمنين في كل سورة البقرة. إذن (بأن) أكثر من (أن) فالباء الزائدة تناسب الزيادة في ذكر المنافقين وجزاؤهم.
وقال تعالى في سورة الأحزاب (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)) لأنه تعالى فصّل في السورة جزاء المؤمنين وصفاتهم.
قال تعالى في سورة المؤمنون (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)) وقال في سورة الزخرف (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)) ذكر الواو في الأولى (ومنها) وحذف الواو في الثانية (منها) لماذا؟ في سورة المؤمنون السياق في الكلام عن الدنيا وأهل الدنيا وتعداد النعم قال (ومنها تأكلون) فالفاكهة في الدنيا ليست للأكل فقط فمنها ما هو للإدخار والبيع والمربّيات والعصائر فكأنه تعالى يقصد بالآية : ومنها تدّخرون، ومنها تعصرون ومنها تأكلون وهذا ما يُسمّى عطف على محذوف. أما في سورة الزخرف فالسياق في الكلام عن الجنة والفاكهة في الجنة كلها للأكل ولا يُصنع منها أشياء أخرى.
الحذف من الفعل:
تتوفاهم – توفّاهم، تنزّل – تتنزّل، تذكرون – تتذكرون، تبدّل – تتبدل.
الحذف من الفعل يدخل تحت ضابطين في القرآن كله:
1. يحذف من الفعل إما للدلالة على الإقتطاع من الفعل.
(1/4)

2. يحذف من الفعل في مقام الإيجاز ويذكر في مقام التفصيل.
قال تعالى في سورة فصلت (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)) وقال في سورة القدر (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)) استخدم نفس الفعل المضارع لكن حذفت التاء في الآية الثانية (تنزّل) لماذا؟
الآية الأولى هي عند الموت تنزل الملائكة على الشخص المستقيم تبشرّه بمآله إلى الجنة ، أما الثانية فهي في ليلة القدر ، التنزّل في الآية الأولى يحدث في كل لحظة لأنه في كل لحظة يموت مؤمن في هذه الأرض إذن الملائكة في مثل هذه الحالة تتنزّل في كل لحظة وكل وقت أما في الآية الثانية فهي في ليلة واحدة في العام وهي ليلة القدر. لإذن التنزّل الأول أكثر استمرارية من التنزّل الثاني، ففي الحدث المستمر جاء الفعل كاملاً غير مقتطع (تتنزّل) أما في الثانية في الحدث المتقطع اقتطع الفعل (تنزّل).
(1/5)

مثال آخر في قوله تعالى في سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)) وفي سورة النحل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)). لنستعرض المتوفين في السياقين: في آية سورة النساء المتوفون هم جزء من المتوفين في آية سورة النحل ففي سورة النساء المتوفون هم المستضعفون من الذين ظلموا أنفسهم أما في سورة النحل فالمتوفون هم ظالمي أنفسهم كلهم على العموم. فأعطى تعالى القسم الأكبر الفعل الأطول وأعطى القسم الأقل الفعل الأقلّ.
مثال آخر في سورة الأحزاب (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)) وقوله تعالى (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) النساء) في آية سورة الأحزاب هي مقصورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحكم مقصور عليه - صلى الله عليه وسلم -. أما الآية الثانية فهي آية عامة لكل المسلمين وهذا التبدّل هو لعموم المسلمين وليس مقصوراً على أحد معين وإنما هو مستمر إلى يوم القيامة. لذا أعطى الحدث الصغير الصيغة القصيرة (تبدّل) وأعطى الحدث الممتد الصيغة الممتدة (تتبدلوا).
(1/6)

مثال آخر: قال تعالى في سورة الشورى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) وقال في سورة آل عمران (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) في الآية الأولى الوصية خالدة من زمن سيدنا نوح - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - فجاء الفعل (تتفرقوا) أما في الآية الثانية فهي خاصة بالمسلمين لذا جاء الفعل (تفرّقوا). والأمة المحمدية هي جزء من الأمم المذكورة في الآية الأولى. وكذلك فالحدث ممتد في الأولى (تتفرقوا) والحدث محدد في الثانية (تفرقوا). فالأولى وصية خالدة على زمن الأزمان (ولا تتفرقوا فيه) لأن هذا هو المأتى الذي يدخل إليه أعداء الإسلام فيتفرقون به لذا جاءت الوصية خالدة مستمرة، وصّى تعالى الأمم مرة ووصّى الأمة الإسلامية مرتين. والآية الأولى أشد تحذيراً للأمة الإسلامية (شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك). شرعه لنا في الوصية العامة لنوح وخصّ بالذي أوحينا إليك ثم خصّ الأمة الإسلامية في الآية الثانية.والحذف له سببان هنا الأول لأن الأمة المحمدية أصغر. ونهانا عن التفرّق مهما كان قليلاً وأراد ربنا تعالى أن نلتزم بهذا الأمر (لا تفرقوا) وقال (واعتصموا بحبل الله جميعا). أكد على الجمع الكامل
(1/7)

وعلى سبيل العموم كأنه فرض عين على الجميع فلا يُعفى أحد من المسؤولية أن لا نتفرق وأن نعتصم بحبل الله وذكرهم بنعم الله عليهم وتوعدهم على الإختلاف بالعذاب العظيم وأطلق العذاب ولم يحصره في الآخرة إنما قد يطالهم في الدنيا والآخرة. المصدر لا يعمل بعد وصفه (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ليست متعلقة بالعذاب العظيم. التفرّق يكون عذابه عظيماً في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى (والذي أوحينا إليك) اختار الإسم الموصول (الذي) عندما ذكر شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل (وما أوحينا إليك) لأن (الذي) أعرف وأخصّ من (ما) التي تشترك في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. وقد بيّن تعالى شريعتنا وعرفناها فجاء بالأعرف (اسم الموصول الذي)، لا نعلم على وجه التفصيل ما وصّى الله تعالى نوحاً وعيسى وموسى وإبراهيم لذا اختار سبحانه (ما) اسم الموصول غير المعرّف.
مثال آخر: قال تعالى في سورة لقمان (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)) وقال في سورة إبراهيم (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) في الآية الأولى أكدها بـ (إن) بقوله (فإن الله غني حميد) وغني نكرة وحميد نكرة. أما في الآية الثانية فأكّد بـ (إن) واللام (فإنه لغني حميد). وفي سورة لقمان أيضاً قال تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) باستخدام الضمير (هو) والتعريف (الغني الحميد) أما في سورة الحج (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)) زاد تعالى اللام على الضمير المنفصل (لهو) لماذا؟
(1/8)

في الفرق بين آية لقمان الأولى وآية سورة إبراهيم نجد أن الثانية آكد من الأولى لأنه ذكر اللام. في آية سورة لقمان ذكر تعالى صنفين أي جعل الخلق على قسمين : من شكر ومن كفر، ومن كفر بعض من الناس. أما في آية سورة إبراهيم (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) افترض كُفر أهل الأرض جميعاً لذا جاء قوله (فإن الله لغني حميد) أعم وأشمل. إن تكفروا تحتاج إلى الإستمرار وتحتاج إلى التوكيد فكان التوكيد أنسب من الآية الأولى. في سورة آل عمران (فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) باستخدام صيغة الماضي وفي آية سورة إبراهيم (وإن تكفروا) بصيغة المضارع. فعل الماضي بعد أداة الشرط مع المستقبل يفترض الحدث مرة واحدة أما فعل المضارع فيدلّ على تكرار الحدث.
(1/9)

واستخدام صيغة الماضي والمضارع في القرآن كثير مثل قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) النساء) وقوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) النساء) أي كلما سنحت له الفرصة قتل وهذا دليل التكرار لذا جاء الفعل بصيغة المضارع. وكذلك في قوله تعالى (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) صيغة المضارع لأن الشكر يكون في كل لحظة على كل نعم الله أما (ومن كفر) جاء بصيغة الماضي لأن الكفر يحصل مرة واحدة فقط. وقال تعالى (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) محمد) سؤال متكرر لأن سؤال الأموال متكرر فجاء الفعل بصيغة المضارع، وقال تعالى (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) الكهف) السؤال حصل مرة واحدة فجاء بصيغة الماضي.
 
من كتاب أسرار البيان في التعبير القرآني للدكتور فاضل السامرائي.

ليست هناك تعليقات: