بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين .
اللهمّ صلّ على سيدّنا محمّد وعلى آله
وأزواجه وذريّته وأصحابه
وإخوانه من الأنبياء والمرسلين والصّدّيقين
والشُّهداء والصَّالحين وعلى أهل الجنّة وعلى
الملائكة
وباركْ عليه وعليهم وسلّم كما تحبه وترضاه يا
الله آمين.
مع سيدنا يونس عليه
السلام في القرآن ...
إنه
النّبيّ الرَّسول : الذي أوحى الله تعالى
أليه ، كما أوحى الى غيره من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام.
قال
تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } النساء 163
وقد
فضلهم الله تعالى بالنبوة على أهل زمانهم ، قال تعالى : {
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ
فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } الأنعام 86
جاء
في تفسير الجلالين رحمهما الله تعالى وغفر لهما وللمسلمين آمين .
(وإسماعيل)
بن إبراهيم (واليسع) اللام زائدة (ويونس ولوطا) بن هاران أخي إبراهيم (وكلا) منهم
(فضلنا على العالمين) بالنبوة.
وجاء
في التفسير الميسر : وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِه وهدينا
كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطا , وكل هؤلاء الرّسل فضَّلناهم على أهل زمانهم.
وفي ذكر يونس عليه
السلام ،
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم ،
لا ينبغي لعبد ، أن يقول ، أنا خير من يونس بن
متّى ، فقد ثبت في الحديث [ المتفق عليه ] ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى
الله عليه وسلم ، قَالَ : { لاَ
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ : أَنْ يَقُولَ ، أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ
بْنِ مَتَّى } ، وفي الحديث الثابت في البخاري : وَنَسَبَهُ
إِلَى أَبِيهِ.
وقد
أنزل الله تعالى في كتابه العظيم ، سورة كاملة ، إنها سورة يونس عليه
السلام.
وقد ذكره الله تعالى بـ صاحب
الحوت ، حيث قال : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } القلم 48
والآن لنقرأ ما قصّه القرآن العظيم ، في سيدّنا يونس عليه السلام.
قال عزَّ وجلَّ : [ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} فَسَاهَمَ
فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ {141} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ {142}
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ {145}
وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ {146} وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى
مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ {147} فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {148}
]( سورة الصافات ).
جاء في تفسير الزمخشري رحمه الله تعالى
وغفر له ولوالديه ولسائر المسلمين آمين.
قرىء : « يونس »
: بضم النون وكسرها ، وسمي هربه من قومه ، بغير إذن ربه : إباقا
على
طريقة المجاز ، والمساهمة : المقارعة ، ويقال : استهم القوم ، إذا اقترعوا ، والمدحض : المغلوب
المقروع ، وحقيقته : المزلق عن مقام الظفر
والغلبة .
روى : أنه حين ركب في السفينة
وقفت ، فقالوا : ههنا عبد أبق من سيده ، وفيما يزعم البحارون
، أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر ، فاقترعوا ، فخرجت
القرعة ، على يونس فقال : أنا
الآبق ،
وزجّ بنفسه في الماء ، { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ }
داخل في الملامة ، يقال : رب لائم مليم ، أي يلوم غيره ، وهو أحقّ منه باللوم ، وقرىء
: « مليم » بفتح الميم ، من ليم فهو مليم ، كما جاء : مشيب في مشوب ، مبنياً على شيب
، ونحوه : مدعي ، بناء على دعى { مِنَ المسبحين }
من الذاكرين الله كثيراً : بالتسبيح والتقديس . وقيل : هو قوله في بطن الحوت : { ....
لاَّ
إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين }
[ الأنبياء : 87 ] وقيل : من المصلين ، وعن
ابن عباس : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة ، وعن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء ،
قال : وكان يقال :
إنَّ العمل الصالح يرفع
صاحبه إذا عثر ، وإذا صرع وجد متكأً ، وهذا ترغيب من الله عزّ وجلّ ، في إكثار المؤمن
، من ذكره بما هو أهله ، وإقباله على عبادته ، وجمع همه لتقييد نعمته بالشكر في وقت
المهلة والفسحة ، لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد : { لَلَبِثَ
فِى بَطْنِهِ } الظاهر : لبثه
فيه حياً إلى يوم البعث ، وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً
إلى يوم القيامة .
وروي : أنه حين ابتلعه ، أوحى
الله إلى الحوت : إني جعلت بطنك له سجناً ، ولم أجعله لك طعاماً .
واختلف في مقدار لبثه ، فعن
الكلبي : أربعون يوماً ، وعن الضحاك : عشرون يوماً . وعن عطاء سبعة ، وعن بعضهم : ثلاثة ، وعن الحسن : لم يلبث إلاّ قليلاً
، ثم أُخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه .
وروي : أنّ الحوت ، سار مع
السفينة ، رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه
سالماً لم يتغير منه شيء ، فأسلموا : وروي أنَّ الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل .
والعراء : المكان الخالي ،
لا شجر فيه ولا شيء يغطيه : { وَهُوَ سَقِيمٌ } اعتلّ
مما حلّ به ، وروي : أنه عاد بدنه كبدن الصبيِّ حين يولد ، واليقطين : كلّ ما ينسدح
على وجه الأرض ، ولا يقوم على ساق : كشجر البطيخ
والقثاء والحنظل ، وهو « يفعيل » من قطن بالمكان : إذا قام به ، وقيل هو : الدباء ،
وفائدة الدباء : أنَّ الذّباب لا يجتمع عنده - وقيل لرسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( 950 ) : إنك لتحب القرع ؟؟؟ قال : " أجل هي شجرة أخي يونس " 1*
ــــــــــــــــــــــ
1*
[
روى مسلم : عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم لطعام
صنعه قال أنس ابن مالك فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ذلك الطعام فقرب
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم خبزا من شعير ومرقا فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت
رسول الله صلى الله عليه و سلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة قال فلم أزل أحب الدباء
منذ يومئذ ].
[ ( دباء
) هو اليقطين القرع الواحدة دباءة ].
وقيل : هي التين ، وقيل :
شجرة الموز ، تغطى بورقها .
واستظلّ
بأغصانها ، وأفطر على ثمارها ، وقيل : كان يستظلّ بالشجرة ، وكانت وعلة
تختلف إليه ، فيشرب من لبنها ، وروي : أنه مرّ زمان على الشجرة فيبست ، فبكى
جزعاً ، فأوحى الله إليه : بكيت على شجرة ، ولا تبكي على مائة ألف ، في يد الكافر ، فإن قلتَ : ما معنى : { وَأَنبَتْنَا
عَلَيْهِ شَجَرَةً } ؟ قلتُ : أنبتناها فوقه مظلة له ؛ كما يطنب
البيت على الإنسان : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ }
المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى ، وقيل : هو إرسال ثان ، بعد ما جرى عليه إلى الأولين
، أو إلى غيرهم ، وقيل : أسلموا فسألوه : أن يرجع إليهم فأبى ، لأنّ النبيّ ، إذا هاجر
عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم ، وقال لهم : إن الله باعث إليكم نبياً : { أَوْ
يَزِيدُونَ } في مرأى الناظر ؛ أي : إذا رآها الرائي ،
قال : هي مائة ألف أو أكثر ؛ والغرض : الوصف بالكثرة : {
إلى حِينٍ } إلى أجل مسمّى وقرىء : « ويزيدون » بالواو
، وحتى حين .
وجاء في تفسير الرازي رحمه الله تعالى
وغفر له ولوالديه ولسائر المسلمين آمين.
واعلم أنَّ هذا : هو القصة
السادسة ، وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة 2* ،
وإنما صارت هذه القصة ، خاتمة للقصص ، لأجل أنه لما لم يصبر على أذى قومه ، وأبق إلى
الفلك ، وقع في تلك الشدائد ، فيصير هذا سبباً لتصبر النَّبيّ صلى
الله عليه وسلم ، على أذى قومه ، أما قوله : [ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} ] ففيه مسائل :
المسألة الأولى :
قال صاحب « الكشاف » قريء يونس : بضم النون وكسرها .
المسألة الثانية :
دلت هذه الآية ، على أنَّ هذه الواقعة ، إنما وقعت ليونس عليه السلام ، بعد أن صار
رسولاً ، لأنَّ قوله : [{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} ] ، معناه أنه كان من المرسلين ، حينما أبق إلى
الفلك ، ويمكن أن يقال : إنه جاء في كثير من الرّوايات : أنه أرسله ملك زمانه ، إلى
أولئك القوم ، ليدعوهم إلى الله ، ثمَّ أبقَ والتقمه الحوت ، فعند ذلك أرسله الله تعالى
.
ــــــــــــــــ
2* [
الصافات ].
والحاصل أنّ قوله : { لَمِنَ
المرسلين } لا يدل على أنه : كان في ذلك الوقت مرسلاً
، من عند الله تعالى ، ويمكن أن يجاب : بأنه سبحانه وتعالى ، ذكر هذا الوصف في معرض
تعظيمه ، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من قوله : { لَمِنَ
المرسلين } أنه من المرسلين عند الله تعالى .
المسألة
الثالثة :
أبقَ : منْ إباق العبد ، وهو هربه من سيده ، ثم اختلف المفسرون ، فقال بعضهم : إنه
أبقَ من الله تعالى ، وهذا بعيد : لأنَّ
ذلك لا يقال ، إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه ، وذلك
لا يجوز على الأنبياء .
واختلفوا
فيما لأجله صار مخطئاً ، فقيل : لأنه أمر بالخروج ، إلى
بني إسرائيل ، فلم يقبل ذلك التكليف ، وخرج مغاضباً لربه ، وهذا بعيد : سواء أمره الله
تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر .
وقيل : إنَّ ذنبه : أنه ترك دعاء
قومه ، ولم يصبر عليهم ، وهذا أيضاً بعيد : لأنَّ الله تعالى ، لما أمره بهذا العمل
، فلا يجوز أن يتركه .
والأقرب فيه وجهان الأول :
الوجه
الأول : أنَّ ذنبه ، كان لأنَّ الله تعالى ، وعده إنزال
الإهلاك بقومه ، الذين كذبوه ، فظن أنه نازل لا محالة ، فلأجل هذا الظن ، لم يصبر على
دعائهم ، فكان الواجب عليه : أن يستمر على الدعاء ، لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب
، وإن أنزله ، وهذا هو الأقرب ، لأنه إقدام
على أمر ظهرت أماراته ، فلا يكون تعمداً للمعصية ، وإن كان الأولى : في مثل هذا الباب
أن لا يعمل فيه بالظن ، ثم انكشف ليونس من بعد : أنه أخطأ في ذلك الظن ، لأجل أنه ظهر
الإيمان منهم ، فمعنى قوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك }
ما ذكرناه .
الوجه
الثاني : أنَّ
يونس ، كان وعد قومه بالعذاب ، فلما تأخر عنهم العذاب ، خرج كالمستور عنهم ، فقصد البحر
، وركب السفينة ، فذلك هو قوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك }
وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى : { وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ
مغاضبا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ....} [ الأنبياء : 87 ]
3*
ـــــــــــــــ
3* [
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ ] ( الأنبياء 87 ).
وقوله : { إِلَى الفلك المشحون }
مفسرٌ ، في سورة يونس ، والسفينة إذا كان فيها
الحمل الكثير والناس ، يقال إنها مشحونة ، ثم قال تعالى : { فساهم
} المساهمة
: هي المقارعة ، يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا ، قال المبرد : وإنما أخذ من السهام
، التي تجال للقرعة : { فَكَانَ مِنَ المدحضين }
أي : المغلوبين ، يقال : أدحض الله حجته : فدحضت أي : أزالها : فزالت ، وأصل الكلمة
: من الدحض ، الذي هو الزلق ، يقال : دحضت رجل البعير : إذا زلقت .
وذكر
ابن عباس ، في قصة يونس عليه السلام :
أنه كان يسكن ، مع قومه فلسطين ، فغزاهم ملك
وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً ، وبقي سبطان ونصف ، وكان الله تعالى : أوحى إلى بني إسرائيل
، إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة ، فادعوني أستجب لكم ، فلما نسوا ذلك : وأسروا
، أوحى الله تعالى بعد حين ، إلى نبي من أنبيائهم
، أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام ، وقل له ، حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبياً ، فاختار
يونس عليه
السلام لقوته
وأمانته ، قال يونس : الله أمرك بهذا ؟؟ قال : لا ، ولكن أمرتُ ، أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك ، فقال يونس : وفي
بني إسرائيل ، من هو أقوى مني ، فلم لا تبعثه ؟؟؟ ، فألح الملك عليه ، فغضب يونس منه
، وخرج حتى أتى بحر الروم ، ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما دخلت لجة البحر
، أشرفت على الغرق ، فقال الملاحون : إنَّ
فيكم عاصياً ، وإلا لم يحصل في السفينة ، ما نراه ، من غير ريح ولا سبب ظاهر ، وقال
التجار : قد جربنا مثل هذا ، فإذا رأيناه نقترع ، فمن خرج سهمه نغرقه ، فلأن يغرق واحد
، خير من غرق الكلّ ، فخرج سهم يونس ، فقال
التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله ، ثم عادوا ثانياً وثالثاً يقترعون فيخرج سهم
يونس ، فقال : يا هؤلاء أنا العاصي : وتلفف في كساء ، ورمى بنفسه ، فابتلعته السمكة
، فأوحى الله تعالى إلى الحوت : « ان لا تكسر
منه عظماً ولا تقطع له وصلاً » ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ، ثم إلى بحر فارس
، ثم إلى بحر البطائح ، ثم دجلة فصعدت به ، ورمته بأرض نصيبين بالعراء ، وهو كالفرخ
المنتوف : لا شعر ولا لحم ، فأنبت الله عليه
شجرة من يقطين ، فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد ، ثمَّ إنَّ الأرض : أكلتها
فخرت من أصلها ، فحزن يونس لذلك حزناً شديداً ، فقال : يا ربِّ كنت أستظل تحت هذه الشجرة
، من الشمس والريح ، وأمص من ثمرها ، وقد سقطت !!! ، فقيل له : يا يونس ، تحزن على
شجرة ، أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ، ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم!!!
انطلق إليهم ، والله أعلم بحقيقة الواقعة .
ثم قال تعالى : { فالتقمه
الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } يقال : التقمه والتهمه والكلّ بمعنى واحد
، وقوله تعالى : { وَهُوَ مُلِيمٌ }
يقال : ألام إذا أتى بما يلام عليه ، فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه .
ثم قال تعالى : [ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ {142}
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} ] ، وفي
تفسير كونه من المسبحين ، قولان :
الأول : أنَّ المراد منه ، ما حكى
الله تعالى عنه ، في آية أخرى ، أنه كان يقول في تلك الظلمات : {... لاَّ
إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين }
[ الأنبياء : 87 ] .
الثاني : أنه
لولا ، أنه كان قبل ، أن التقمه الحوت ، من المسبحين : يعني المصلين ،
وكان في أكثر الأوقات مواظباً ، على ذكر الله وطاعته ، للبث في بطن ذلك الحوت ، وكان
بطنه قبراً له إلى يوم البعث .
قال بعضهم : اذكروا الله في الرخاء : يذكركم في الشدة
، فإن يونس عليه السلام : كان عبداً صالحاً ، ذاكراً لله تعالى ، فلما وقع في بطن الحوت
، قال الله تعالى : [ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ {143}
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} ] ، وإن فرعون كان عبداً طاغياً
ناسياً ، فلما أدركه الغرق ، قال : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }(
يونس90 ) ، قال الله تعالى : { آلآنَ
وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
( يونس91 ) .
واختلفوا في أنه : كم
لبث في بطن الحوت ، ولفظ القرآن ، لا يدل عليه ، قال الحسن : لم يلبث إلا قليلاً ،
وأخرج من بطنه ، بعد الوقت الذي التقمه ، وعن مقاتل بن حيان : ثلاثة أيام ، وعن عطاء
سبعة أيام ، وعن الضحاك عشرين يوماً ، وقيل شهراً ، ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير !!!!.
وعن أبي هريرة : عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال :[ « سبح يونس ، في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه
، فقالوا : ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً ، بأرض
غريبة ، فقال : ذاك عبدي يونس : عصاني فحبسته في بطن الحوت ، في البحر ، فقالوا : العبد
الصالح ، الذي كان يصعد إليك منه ، في كلّ
يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم ، فشفعوا له ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل » ] فذاك هو قوله : { فنبذناه
بالعراء }
4* ،
وفيه مباحث :
الأول :
العراء
: المكان الخالي ، قال أبو عبيدة ، إنما قيل له العراء ، لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه .
الثاني :
أنه
تعالى قال : { فنبذناه بالعراء }
فأضاف
ذلك النبذ إلى نفسه ، والنبذ إنما حصل بفعل الحوت ، وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق
لله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَهُوَ
سَقِيمٌ }
قيل :
المراد ، أنه بلي لحمه وصار ضعيفاً كالطفل المولود ، كالفرخ الممعط ، الذي ليس عليه
ريش ، وقال مجاهد سقيم : أي سليب .
ثم
قال تعالى : { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ }
ظاهر اللفظ : يدل على أنَّ الحوت ، لما نبذه في العراء ، فالله تعالى أنبت عليه شجرة
، من يقطين ، وذلك المعجز له ، قال المبرد والزّجاج : كلّ شجر ، لا يقوم على ساق ، وإنما يمتد على وجه الأرض ، فهو
يقطين ، نحو الدّباء والحنظل والبطيخ ، قال : الزّجاج
: أحسب اشتقاقها ، من قطن بالمكان ، إذا أقام به ، وهذا الشجر ، ورقه كلّه على وجه
الأرض ، فلذلك قيل له اليقطين .
روى
الفراء :
أنه قيل ، عند ابن عباس ، هو ورق القرع ، فقال : ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً
، كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين .
قال
الواحدي
رحمه الله : والآية : تقتضي شيئين ، لم يذكرهما المفسرون
، أحدهما :
أنَّ هذا اليقطين ، لم يكن قبل ، فأنبته الله لأجله .
والآخر :
أنَّ اليقطين ، كان معروشاً ، ليحصل له ظل ، لأنه لو كان منبسطاً على الأرض ، لم يمكن
أن يستظل به .
ــــــــــــــــ
4* [
لم أجد تخريجه في الكتب المعتمدة على برنامج المكتبة الشاملة والله تعالى
أعلم ].
وقال تعالى : [ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ
نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ {48} لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ
لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ {49} فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ{50} ]( سورة القلم ).
جاء في تفسير الرازي رحمه الله تعالى وغفر
له ولوالديه ولسائر المسلمين آمين.
ثم قال تعالى : { وَلاَ
تَكُن كصاحب الحوت إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :
العامل في { إِذْ } معنى قوله : { كصاحب
الحوت }
يريد لا تكن كصاحب الحوت ، حال ندائه ، وذلك لأنه في ذلك الوقت ، كان مكظوماً ، فكأنه
قيل : لا تكن مكظوماً .
المسألة
الثانية :
صاحب الحوت : يونس عليه السلام ،
إذ نادى في بطن الحوت بقوله : { .. لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ
مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، { وَهُوَ
مَكْظُومٌ } مملوء غيظاً ، من كظم السقاء إذا ملأه ، والمعنى
: لا يوجد منك ، ما وجد منه ، من الضجر والمغاضبة ، فتبلى ببلائه .
[ لَوْلَا
أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ]
وقرىء ( رحمة
من ربه )
، وههنا سؤالات :
السؤال الأول :
لم ، لم يقل : لولا أن تداركته : نعمة من ربه ؟ الجواب : إنما حسن تذكير الفعل ، لفصل
الضمير في تداركه ، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود : تداركته ،
وقرأ الحسن : تداركه ، أي تتداركه على حكاية الحال
الماضية ، بمعنى لولا : أن كان ، يقال : فيه تتداركه ، كما يقال : كان زيد سيقوم فمنعه
فلان ، أي كان يقال فيه : سيقوم ، والمعنى كان متوقعاً منه القيام .
السؤال الثاني :
ما المراد من قوله : { نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ }
؟ الجواب : المراد من تلك النعمة ، هو أنه تعالى : أنعم عليه بالتوفيق للتوبة ، وهذا
يدل على ، أنه لا يتم شيء ، من الصالحات والطاعات ، إلا بتوفيقه وهدايته .
السؤال الثالث :
أين جواب لولا ؟ الجواب : من وجهين :
الأول :
تقدير الآية : لولا هذه النعمة ، لنبذ بالعراء ، مع وصف المذمومية ، فلما حصلت هذه
النعمة ، لا جرم ، لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف ، لأنه لما فقد هذا الوصف :
فقد فقد ذلك المجموع.
الثاني : لولا هذه النعمة ، لبقي
في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ، ويدل على هذا قوله
: {
فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
[ الصافات : 143 ، 144 ] وهذا كما يقال : عرصة القيامة ؛ وعراء القيامة .
السؤال الرابع :
هل يدل قوله : { وَهُوَ مَذْمُومٌ }
على كونه فاعلاً للذنب ؟ الجواب : من ثلاثة أوجه :
الأول :
أن كلمة { لَوْلاَ } دلت على ، أن هذه المذمومية
، لم تحصل ، الثاني :
لعل المراد من المذمومية : ترك الأفضل ، فإن : حسنات الأبرار سيئات
المقربين ، الثالث :
لعل هذه الواقعة ، كانت قبل النبّوّة ، لقوله : { فاجتباه رَبُّهُ }
[ القلم : 50 ] والفاء للتعقيب .
السؤال
الخامس :
ما سبب نزول هذه الآيات ؟ الجواب : يروى ، أنها نزلت بأحد ، حين حلّ برسول الله ، ما حلّ ،
فأراد أن يدعو على الذين انهزموا ، وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف .
{ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ، فيه مسألتان : المسألة
الأولى :
في الآية وجهان : أحدهما :
قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي ، وشفعه في قومه ، والثاني
: قال قومٌ : ولعله ، ما كان رسولاً صاحب وحيّ قبل هذه الواقعة ، ثم بعد هذه الواقعة
، جعله الله رسولاً ، وهو المراد من قوله : { فاجتباه رَبُّهُ }
والذين أنكروا الكرامات والإرهاص ، لا بد وأن يختاروا القول الأول ، لأنَّ احتباسه
، في بطن الحوت وعدم موته هناك ، لما لم يكن : إرهاصاً ولا كرامة ، فلا بد وأن يكون
معجزة وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحالة .
المسألة
الثانية :
احتج الأصحاب ، على أن فعل العبد : خلق الله تعالى ، بقوله : {
فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } فالآية تدل على أن : ذلك الصلاح ، إنما حصل بجعل الله وخلقه ، قال الجبائي
: يحتمل أن يكون معنى جعله : أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به ، حتى صلح ، إذ
الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني ، والجواب : أنَّ هذين الوجهين اللذين ذكرتم
مجاز ، والأصل في الكلام الحقيقة .
..........................................
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ آمين
تنسيق بيسير من التصرف / عبد الله
الراجي عفوه تعالى