الاثنين، 23 مايو 2016

ما هو فن السرور ؟

فن السرور


من أعظمِ النعمِ سرورُ القلبِ ، واستقرارُه وهدوؤُهُ ، فإنَّ في سرورهِ ثباتُ الذهنِ وجودةِ الإنتاجِ وابتهاجِ النفسِ ، وقالوا. إنّ السرورَ فنٌّ يُدرَّسُ ، فمنْ عرفَ كيفَ يجلبُه ويحصلُ عليه ، ويحظى به استفادَ من مباهجِ الحياةِ ومسارِ العيشِ ، والنعمِ التي من بينِ يديْه ومن خلفِه. والأصلُ الأصيلُ في طلبِ السرورِ قوةُ الاحتمالِ ، فلا يهتزُّ من الزوابعِ ولا يتحرَّكُ للحوادثِ ، ولا ينزعجُ للتوافِهِ . وبحسبِ قوةِ القلبِ وصفائِهِ ، تُشرقُ النَّفْسُ .

إن خَوَرَ الطبيعةِ وضَعْفَ المقاومةِ وجَزَعَ النفسِ ، رواحلُ للهمومِ والغمومِ والأحزانِ ، فمنْ عوَّد نفسَه التصبُّر والتجلُّدَ هانتْ عليه المزعجاتُ ، وخفَّتْ عليهِ الأزماتُ .
إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا  فأهونُ ما تمرُّ به الوحولُ

ومن أعداءِ السرورِ ضيِقُ الأُفُقِ ، وضحالَةَ النظرةِ ، والاهتمامُ بالنفس فَحَسْبُ ، ونسيانُ العالمِ وما فيه ، واللهُ قدْ وصفَ أعداءَهُ بأنهمْ (( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ )) ، فكأن هؤلاءِ القاصرينَ يَرَوْن الكَوْنَ في داخلِهم ، فلا يفكّرونَ في غيرِهِمْ ، ولا يعيشوَن لسواهُمْ ، ولا يهتمّونَ للآخرينَ . إنَّ عليَّ وعليكَ أنْ نَتَشَاغَلَ عن أنفسِنَا أحياناً ، ونبتعد عن ذواتِنا أزماناً لِنَنْسَى جراحَنا وغمومَنا وأحزانَنا ، فنكسبَ أمرْين : إسعادَ أنفسنِا ، وإسعادَ الآخرين.
من الأصولِ في فنِّ السرورِ : أن تُلجمَ تفكيرَكَ وتعصمهَ ، فلا يتفلَّتُ ولا يهربُ ولا يطيشُ ، فإنك إنْ تركتَ تفكيرَكَ وشأنَهُ جَمَحَ وطَفَحَ ، وأعادَ عليكَ مَلفَّ الأحزانِ وقرأَ عليكَ كتابَ المآسي منذُ ولدتْكَ أمُّكَ. إنَّ التفكيرَ إذا شردَ أعادَ لك الماضي الجريحَ وجرجَرَ المستقبلَ المخيفَ ، فزلزلَ أركانَك ، وهزّ كيانَك وأحرقَ مشاعرَك ، فاخطمْه بخطامِ التوجُّهِ الجادِّ المركّزِ على العملِ المثمرِ المفيدِ ، (( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ )) .
ومن الأصول أيضاً في دراسةِ السرورِ : أنْ تُعطيَ الحياةَ قيمتَها ، وأنْ تُنزلَهَا منزلتها ، فهي لهْوٌ ، ولا تستحقُّ منكَ إلا الإعراضَ والصدودَ ، لأنها أمُّ الهجْرِ ومُرضِعةُ الفجائعِ ، وجالبةُ الكوارثِ ، فمَنْ هذه صفتُها كيف يُهتمُّ بها ، ويُحزنُ على ما فات منها. صفُوها كَدَرٌ ، وبرقُها خُلَّبٌ ، ومواعيدُها سرابٌ بقيِعةٍ ، مولودُها مفقودٌ ، وسيدُها محسودٌ ، ومنعَّمُها مهدَّدٌ ، وعاشقُها مقتولٌ بسيفِ غَدْرِها .
أًبَني أَبِينا نحنُ أهلُ منازلِ   أبداً غُرابُ البَيْنِ فيها يَنْعِقُ

نبكي على الدنيا وما مِنْ معشرٍ جمعتْهُمُ الدنيا فلمْ يتفرَّقوا

أينَ الجَبَابِرَةُ الأكاسرةُ الأُلى كَنَزْوا الكنوزَ فلا بقينَ ولا بَقُوا

مِن كلِّ مَنْ ضاقَ الفَضَاءُ بِعَيْشِه حتى ثَوى فحَوَاه لحدٌ ضَيِّقُ

خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لمْ يعلمُوا أنَّ الكلامَ لهم حَلاَلٌ مُطلَقُ

وفي الحديثِ : ( إنما العلمُ بالتعلُّمِ والحِلْمُ بالتحلُّمِ ) .
وفي فنِّ الآدابِ : وإنما السرورُ باصطناعِه واجتلابِ بَسْمَتِهِ ، واقتناصِ أسبابِهِ ، وتكلُّفِ بوادرِه ، حتى يكونَ طبْعاً .
إن الحياةَ الدُّنيا لا تستحقُّ منا العبوسَ والتذمُّرَ والتبرُّمَ .
حُكْمُ المنيَّةِ في البريةِ جارِي  ما هذهِ الدنيا بدارِ قرارِ

بينا تَرَى الإنسان فيها مُخْبِراً  ألفيْتَهُ خَبَراً مِن الأخبارِ

طُبِعَتْ على كَدَرٍ، وأنتَ تريدُها  صَفْواً من الأقذارِ والأكدارِ

ومكلِّفُ الأيَّامِ ضِدَّ طباعِها  مُتطلِّبٌ في الماء جُذْوَةَ نارِ

والحقيقةُ التي لا ريبَ فيها أنكَ لا تستطيعُ أنْ تنزعَ من حياتِكَ كلِّ آثارِ الحزنِ ، لأنَّ الحياة َخُلقتْ هكذا (( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ )) ، (( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ )) ، (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) ، ولكنَّ المقصودَ أن تخفّفُ من حزنِك وهمِّك وغمِّك ، أما قَطْعُ الحُزْنِ بالكليَّةِ فهذا في جناتِ النعيمِ ؛ ولذلك يقولُ المنعمون في الجنة : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ )) . وهذا دليلٌ على أنهُ لم يذهبْ عنهُ إلا هناكَ ، كما أنَّ كلَّ الغِلِّ لا يذهبُ إلا في الجنةِ ، (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ )) ، فمنْ عَرَفَ حالةَ الدنيا وصفتها ، عَذَرَها على صدودِها وجفائِها وغَدْرِها ، وعَلِمَ ان هذا طبعُها وخلُقُها ووصفُها .

حلفتْ لنا أنْ لا تخون عهودَنا   فكأَّنها حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَفِي

فإذا كان الحالُ ما وصفْنا ، والأمرُ ما ذكرنا ، فحرِيٌّ بالأريبِ النابِهِ أنْ لا يُعينَها على نفسِه ، بالاستسلامِ للكدرِ والهمِّ والغمِّ والحزنِ ، بل يدافعُ هذه
المنغصاتِ بكلِّ ما أوتيَ من قوةٍ ، (( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) ، (( فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ )) .
**********************************
من كتاب لا تحزن

الخميس، 19 مايو 2016

كل شيءٍ بقضاءٍ وقدّر

كلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَر

كلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ ، وهذا معتقدُ أهلِ الإسلامِ ، أتباعِ رسولِ الهدى - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنهُ لا يقعُ شيءٌ في الكونِ إلا بعلمِ اللهِ وبإذنِه وبتقديرِه .
  (( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )) .
  (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )) .
  (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )) .
وفي الحديثِ : ( عجباً لأمرِ المؤمنِ !! إنَّ أمرهَ كلَّه له خير ، إنْ أصابْتهُ سرَّاءُ شكر فكان خيراً له ، وإنْ أصابتْه ضرَّاءُ صبر فكان خيراً له ، وليسَ ذلك إلا للمؤمن ) .
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إذا سألتَ فاسألِ اللهَ ، وإذا استعنت فاستعنْ باللهِ ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعُوا على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك ِ ، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قدْ كتبهُ اللهُ عليكَ ، رُفعتِ الأقلامُ ، وجفَّتِ الصحفُ ) .
وفي الحديثِ الصحيح أيضاً : ( واعلمْ أن ما أصابك لم يكنع لِيخطئَك ، وما أخطأكَ لمْ يكن ليصيبَك ) .
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ : ( جفَّ القلمُ يا أبا هريرة بما أنت لاقٍ ) .
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قالَ : ( احرصْ على ما ينفعُك ، واستعنُ باللهِ ولا تعجزْ ، ولا تقلْ : لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا ، ولكنْ قلْ : قدَّر اللهُ وما شاءَ فَعَلَ ) .
وفي حديثٍ صحيحٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقضي اللهُ قضاءً للعبدِ إلا كان خيراً له ) .
سُئل شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عن المعصيةِ : هلْ هيَ خَيْرٌ للعبدِ ؟ قالَ : نعمْ بشرطِها من الندمِ والتوبةِ ، والاستغفارِ والانكسارِ .
وقولُه سبحانه : (( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) .
هيَ المقاديرُ فلُمني أو فَذَرْ  تجري المقاديرُ على غرْزِ الإِبَرْ

من كتاب لا تحزن


الاثنين، 16 مايو 2016

سيرة التابعية عاتكة زوجة الشهداء

عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل
كانت من الفصاحة على جانب عظيم، وقد أعطيت شطر الحسن فعشقها عبد الله بن أبي بكر الصديق وكلف بها حتى كاد أن يطير عقله، فلما تزوج بها أقام سنة لم يشتغل بسواها، فلما كان يوم الجمعة وهو معها إذ فاتته الصلاة وهو لا يدري وجاء أبوه فوجده عندها فقال له: أجمعت؟ فقال: وهل صلى الناس؟ فقال: قد ألهتك عن الصلاة طلقها فطلقها، واعتزلت ناحية فلما كان الليل قلق قلقا شديدا فأنشد:

أعاتك لا أنساك ما ذر شارق ... وما ناح قمري الحمام المطوق
لها منطق جزل ورأى ومنصب ... وخلق سوي في حياء ومصدق
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء يطلق

وكان أبو بكر على سطح يصلي فسمعه فرق له فقال له: راجعها، ثم ضمها إليه وأعطاها حديقة على أن لا تتزوج بعده وأنشد:

أعاتك قد طلقت من غير ريبة ... وروجعت للأمر الذي هو كائن
كذلك أمر الله غاد ورائح ... على الناس فيه ألفة وتباين
ومازال قلبي للتفرق طائرا ... وقلبي لما قد قدر الله ساكن
ليهنك أني لا أرى فيك سخطة ... وأنك قد تمت عليك المحاسن
فإنك ممن زين الله وجهه ... وليس لوجه زائنه الله شائن
 
فلما قتل بالطائف رثته فقالت:
رزئت بخير الناس بعد نبيهم ... وبعد أبي بكر وما كان قصرا
ف لله عينا من رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه أوسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا
فآليت لا تنفك عيني سخينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
مدى الدهر ما غنت حمامة أيكة ... وما طرد الليل الصباح المنورا

وتزوجها عمر بعد أن استفتى عليا في ذلك فأفتى بأنها ترد الحديقة إلى أهله وتتزوج ففعلت فذكرها علي بقولها: فآليت لا تنفك البيت، ثم قال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف: 3) ثم تزوجها بعده الزبير وبعده الحسين بن علي - عليه السلام - حتى قال عمر: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة، وخطبها علي فقالت: إن لأضن بك عن القتل، وخطبها مروان بعد الحسين فقالت: ما كنت متخذة حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عاتكة ترثي عمر بن الخطاب:
عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تملي على الإمام النحيب
فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الناس والمعني على الده ... ر غياث المنتاب والحروب
قل لأهل الضراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب

ولها فيه أيضا:
وفجعني فيروز لا در دره ... بأبيض تال للكتاب نجيب
رؤئف على الداني غليظ على العدا ... أخي ثقة في النائبات منيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... يريع إلى الخيرات غير قطوب
وقالت ترثيه أيضا:

من لنفس عادها أحزانها ... ولعين شفها طول السهد
جسد لفف في أكفانه ... رحمة الله على ذاك الجسد
فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه الله يمشي بسبد
فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه الله يمشي بسبد

وقالت ترثي الزبير، وتخاطب عمرو بن جرموز الذي قتله غدرا عند رجوعه من حرب الجمل:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
شلت يمينك إن قتلت مسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد
عن الزبير لذو بلاء صادق ... سمح سجيته كريم المشهد
كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن فقع القردد
فاذهب فما ظفرت يداك بمثله ... فيمن مضى ممن يروح ويغتدي
 
وقالت ترثي الحسين عليه السلام:

وحسينا ولا نسيت حسينا ... أقصدته أسنة العداء
غادروه بكربلاء صريعا ... جادت المزن في ذرى كربلاء

من كتاب الدر المنثور

السبت، 14 مايو 2016

افرح بتوبة الله عليك ... فليس من بعدها فرحة

افرح بتوبة الله عليك


ألا يشرحُ صدركَ ، ويزيلُ همَّك وغمَّك ، ويجلبُ سعادتك قولُ ربِّك جلَّ في علاه : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) ؟ فخاطَبَهُمْ بـ «يا عبادي» تأليفاً لقلوبِهِمْ ، وتأنيساً لأرواحِهِمْ ، وخصَّ الذين أسرفُوا ، لأنهمُ المكثرون من الذنوبِ والخطايا فكيف بغيرِهم ؟! ونهاهْم عنِ القنوطِ واليأسِ من المغفرةِ وأخبر أنه يغفرُ الذنوب كلَّها لمنْ تاب ، كبيرها وصغيرَها ، دقيقها وجليلَها . ثم وصفَ نفسه بالضمائرِ المؤكدةِ ، و «الـ » التعريفِ التي تقتضي كمال الصفةِ ، فقال : (( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) .
ألا تسعدُ وتفرحُ بقولِهِ جلَّ في علاه : (( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) ؟!

وقولِهِ جلَّ في علاه : (( وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً )) ؟!
وقولِهِ : (( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً )) ؟!
وقولِهِ عزَّ من قائلٍ : (( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً )) ؟!

وقولِهِ تعالى : (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى )) ؟!
ولما قَتَلَ موسى عليه السلامُ نفساً قال : (( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ )).
وقال عن داودَ بعدما تاب وأناب : (( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ)) .
سبحانَهُ ما أرحَمهُ وأكرمَهُ !! حتى إنه عرض رحمته ومغفرته لمنْ قالَ يلبتثليثِ ، فقال عنهم : (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{73} أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) .
ويقولُ - صلى الله عليه وسلم - فيما صحَّ عنهُ : (( يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرْتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لوْ بلغتْ ذنوبُك عَنَانَ السماءِ ، ثمَّ استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً ، لأتيتُك بقرابِها مغفرةً )) .
وفي الصحيح عنهُ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إنَّ الله يبسُطُ يدهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ ، ويبسُطُ يدهُ بالنهار ليتوب مسيءُ الليلِ ، حتى تطلعَ الشمسُ من مغربِها ) .
وفي الحديث القدسيِّ : ( يا عبادي ، إنكمْ تُذنبون بالليلِ والنهارِ ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً ، فاستغفروني أغفرْ لكم ) .
وفي الحديثِ الصحيحِ : ( والذي نفسي بيدهِ ، لو لمْ تذنبُوا لذهبَ اللهُ بكمْ ولجاءَ بقومٍ آخرين يذنبون ، فيستغفرون الله ، فيغفرُ لهم ) .

وفي حديثٍ صحيحٍ : ( والذي نفسي بيدهِ لو لمْ تذنبوا لَخِفْتُ عليكم ما هو أشدُّ من الذنبِ ، وهو العُجْبُ ) .
وفي الحديثِ الصحيح : ( كلُّكمْ خطَّاءٌ ، وخيرُ الخطَّائين التوابون ) .
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ : ( للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه من أحدكم كان على راحلتِهِ ، عليها طعامُهُ وشرابه ، فضلَّت منهُ في الصحراء ، فبحث عنها حتى أيِسَ ، فنام ثم استيقظ فإذا هي عند رأسِه ، فقال : اللهمَّ أنت عبدي ، وأنا ربُّكَ . أخطأ من شَّدةِ الفرحِ ) .


وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ : ( إنَّ عبداً أذنب ذنباً فقال : اللهم اغفرْ لي ذنبي فإنهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت ، ثم أذنب ذنباً ، فقال : اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي فإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت ، ثم أذنب ذنباً ، فقال : اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي فإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت . فقال اللهُ عزَّ وجلَّ علِمَ عبدي أنَّ له ربّاً يأخذُ بالذنبِ، ويعفو عن الذنبِ ، فليفعلْ عبدي ما شاء).
والمعنى : ما دام أنهُ يتوبُ ويستغفرُ ويندمُ ، فإني أغفرُ له .

من كتاب "لا تحزن" للشيخ عائض القرني

السبت، 7 مايو 2016

من اخبار زبيدة زوجة هارون الرشيد

زبيدة بنت جعفر بن المنصور العباسي
هي امرأة هارون الرشيد وأم ولده محمد الأمين· كانت ذات معروف وخير وفضل ونفقة واسعة على البر وأصحاب الحاجات وقصة حجها وما فعلته في طريقها من الإحسان مشهورة في كتب التواريخ شهرة عظيمة فوق ما كان لها من شهرة الشرف والثروة الواسعة فإنها جمعت شرف الخلافة من أطرافها فأبوها ابن خليفة، وعمها المهدي خليفة، وزوجها أشهر الخلفاء وابنها خليفة أيضا، ولذلك قد كثرت عنها الحكايات والأخبار في كتب العرب· قال ابن الجوزي: إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار، وإنها أسالت المياه عشرة أميال بحط الجبال ونحت الصخور حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة· فقالت: اعملها ولو كلفت مشربة الناس دينارا، وكان لها مائة جارية تحفظن القرآن ولكل واحدة ورد عشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من قراءة القرآن· وقيل: كان اسمها أمة العزيز فلقبها جدها المنصور زبيدة لبضاضتها ونضارتها·
قال ابن الأثير: وكان مولد زبيدة بقصر حرب وهو قصر بناه حرب بن عبد الله من أكابر قواد المنصور حينما وجهه المنصور مع ولده جعفر أبي زبيدة ليكون نائبا عن مالك بن الهيثم في ولاية الموصل وهذا القصر بأسفل الموصل وتزوج بها الرشيد سنة 165 هجرية ،كان يحبها كثيرا ويكرمها غاية الإكرام، وكانت شديدة البر به والاحتفاظ على رضاه، ولم يكن يمنع عنها شيئا من كل ما تطلبه من نفقة وما يتعلق بها وبغيرها مما يسرها وينفعها غير أنها بعد تلك الكرامة والعزة والأبهة أصبحت بعد موت الرشيد في حالة سيئة من الكآبة والذل وخفض الجناح، وذلك لما وقع بين الأمين والمأمون من الفتن ولاسيما بعدما قتل ولدها الأمين في تلك الأثناء، وقد كتبت للمأمون بأبيات ترثي بها سوء حالها بعد فقد ولدها وهي:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفون ومحجر
وقد مسني ضير وذل كآبة ... وأرق عيني يا ابن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت قد مصابه ... فأمري عظيم منكر عند منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المتضير المقهر
وأرجو لما قد مر بي فقده ... فأنت لبيتي خير رب معمر
أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ... فما طاهر فيما أتى بمطهر

وذلك لأن طاهر بن الحسين هو الذي قام بحرب الأمين وكان السبب في قتله:
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وأخرب أدوري
يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أبدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر
وقالت زبيدة أم جعفر ترثي ولها الأمين:
أودي بألفين من لم يترك الناسا ... فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له ... أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئا أرعى النجوم له ... أخال سنته بالليل قرطاسا
والموت كان به والهم قارنه ... حتى سقاه التي أودى بها الكاسا
رزئته حين باهيت الرجال به ... وقد بنيت به للدهر أساسا
فليس من مات مردودا لنا أبدا ... حتى يرد علينا قبله ناسا

فلما قرأها المأمون بكى وقال: أنا الطالب بثأر أخي قتل الله قتلته، ثم إن المأمون عطف على زبيدة فجعل لها مكانا في قصر الخلافة وأقام لها الوظائف والخدم والجواري، وكانت حاضرة عند دخوله الغرفة التي زفت إليه بها بوران بنت الحسن، وطلبت لها بوران منه الإذن بالحج فأجابها إلى طلبها، وألبست بوران بيدها قسما من ملابسها· وأما ححجتها المشهورة فقيل: أنفقت فيها في بناء المساجد والصدقات ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وأجرت الماء من دجلة إلى عرفات، ثم إلى مكة حتى سقت أهلها -كما مر- وهذه مبالغة عظيمة فالماء الذي أجرته إلى مكة ليس من دجلة قيل: وأجرت نبع العرعار من جبل لبنان إلى بيروت حتى وصل إلى وادي المكلس فبنوا له طبقات فناطر حتى جرى الماء فوقها إلى جانبه الآخر وتطرق إلى بيروت لأنها كانت قد مرت من هناك في حجتها -المذكورة- فوجدت الماء قليلا وإلى الآن يقال لهذه القناطر: قناطر زبيدة والأرجح أن بانية هذه القناطر إنما هي زنوبية ملكة تدمر المعروفة باسم زبيدة أيضا ولها آثار كثيرة من مثل ذلك تدعى الزبيدية غالبا نسبت إليها منها بركة في طريق مكة بين العقيق والعذيب بها قصر ومسجد عمرتهما من مالها، ومحلات ببغداد مشهورة أيضا باسمها، ولكثرة مالها وسعة نفقتها ضرب المثل الحريري بقوله: "لو حبتك شيرين بجمالها وزبيدة بمالها"· ومما يحكى عن حلمها وحسن أخلاقها وفهمها أن أحد الشعراء مدحها بقصيدة يقول من جملتها:
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فهم الخدم بضربه وطرده وكانت هي خلف الستارة تسمعه فقالت: دعوه لأنه لم يرد إلا خيرا، ولكنه أخطأ الصواب، فإنه سمع شمالك أندى من يمين غيرك وقفاك أحسن من وجه سواك فظن أن الذي ذهب إليه من ذلك القبيل أعطوه ما أمل، ونبهوه على ما أهمل· وأخبارها كثيرة منها: أنه حصل جفاء بينها وبين المأمون يوما فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك وتأمره بأن يقول أبياتا تعطفه عليها فقال:
ألا إن ريب الدهر يدني ويبعد ... ويؤنس الآلاف طورا ويفقد
أصيبت بريب الدهر مني يدعلت ... فسلمت للأقدار والله أحمد
وقلت لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر لم يفقدا ومحمد
فلما سمع المأمون هذه الأبيات حسن موقعها عنده وأحسن إليها وبكى وقام من وقته إليها، وأكب عليها وقبلت يديه وقال لها: ما جفوتك تعمدا ولكن شغلت عنك بما لم يكن إغفاله؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك وأتم يومه عندها·

من كتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور