الأربعاء، 21 مايو 2014

هل هنالك حديث نبوي صحيح ؟




بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة
كثر الحديث في هذا الوقت عن الحديث النبوي الشريف وظهر من يطعن في الحديث الصحيح ومن يتكلم على صحيح البخاري ورد علماء المسلمين عليهم وكثرت الكتب وكثرت الكتابات والناس بين مؤيد لهذا وهذا والكثير من المتكلمين والطاعنين والمؤيدين لا يعرفون ما معنى الحديث وما معنى الصحيح وهل هناك حديث صحيح أم لا ؟
أحببت في هذا الكتاب طرح هذا التساؤل والإحاطة بالحديث بصورة مبسطة لجميع القارئين من العامة ومن ثم ليقرر القارئ بكامل حريته وقناعته هل هناك حديث صحيح ام لا.


ما هو الحديث
يتضمن مفهوم الحديث عند المسلمين كل ما سمعه الصحابة من الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أثناء اجتماعهم به او اثناء خطبه او غزواته او حجه او سفره او ما نقله زوجاته عنه مما قاله في بيته فكل ما سمعوه منه يدخل في الحديث.
ويتضمن ما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمام الصحابة من أفعال في صلاته ووضوئه و لبسه و شربه واكله وحروبه وحجه وغسله وكل ما شاهدوه منه وكذلك من الحديث ما حدث امام الرسول او في حياته من افعال الصحابة او الناس فسكت ولم ينهى عنه واخيرا ويدخل ضمن الحديث ما نقله الصحابة عن اوصاف الرسول الخلقية والخُلقية ووصف حركته ومشيه وكلامه وكل شيء من افعاله وما شابه .. كل ما سبق اطلق عليه المسلمون الحديث فاصبح الحديث مصطلح يشمل كل ذلك.
اما لفظ النبوي فاضيف للحديث لتمييزه عن باقي أحاديث الناس والأخبار والقصص.
ويسمى الحديث الشريف لشرفه ورفعته عند المسلمين عن باقي أحاديث وكلام الناس.

أهمية الحديث
تكمن أهمية الحديث انه اصل من اصول الاسلام فمعظم العبادات وتفاصيلها واركانها والمعاملات والحدود ليست موجودة في القرآن الذي هو الاصل الاول في الاسلام ولكنها موجودة في حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) لذلك فان التشكيك في الحديث النبوي يعد تشكيك في دين الاسلام.

الحديث في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم)
جمع الحديث
بدأ جمع الحديث مع بداية الاسلام فبالاضافة الى حفظ القرآن بدأ الصحابة تلقائيا يحفظون اقوال الرسول وأوامره كما يحدث لكل انسان عندما يسمع شخصا يقول شيء او يفعل شيء فيتعلق ذلك في ذهنه.
وقد تميز حفظ الصحابة بالدقة والقوة وعدم النسيان وذلك لما امتاز به العرب في ذلك الوقت من ملكة قوية في حفظ أشعار الجاهلية لذلك حفظ الصحابة احاديث الرسول بدقة كحفظهم للقرآن.
وبدأ بعض الصحابة بحفظ الحديث وجمعه لمعرفتهم بقيمته في دينهم وحياتهم وفرغوا وقتهم لذلك ومن اشهر هؤلاء الصحابة ابو هريرة (رضي الله عنه) فبالرغم انه وصل الى المدينة والتقى رسول الله قبل ثلاث سنوات من وفاته الا انه حرص على ملازمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) طول اليوم ولم يكن يترك الرسول الا عند دخوله بيته. وقام ابو هريرة بجمع الحديث من الصحابة الأوائل فكان يسألهم عن أحاديث وأخبار الرسول في بداية الإسلام وعن غزواته وحروبه فجمع من ذلك الشيء الكثير. وبلغ من حرصه على جمع الحديث انه شكا الى الرسول انه ينسى بعض الأحاديث التي يحفظها فدعى الرسول (صلى اله عليه وسلم) له بحفظ الحديث وعدم النسيان.
 بدأ تدوين الحديث في بداية الاسلام من بعض الصحابة حتى وصل الأمر إن منعهم رسول الله من ذلك حتى يتفرغوا لتدوين القرآن ، وبعد انتشار الاسلام واتخاذ الرسول (صلى الله عليه وسلم ) مجموعة من الكتاب المختصين لتدوين القرآن ( سموا كتاب الوحي) رخص الرسول (صلى اله عليه وسلم) للصحابة في تدوين الحديث ومن اشهرهم الصحابي عبدالله بن عمرو بن العاص فقد جمع مجموعة من الأحاديث في صحيفة ثم عرضها على رسول الله فوافقه عليها وهكذا فان جمع الحديث بدأ حفظا وكتابة في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم).

نشر الحديث
كما بينا في جمع الحديث إن جمع الحديث بدأ عموما تلقائيا لذلك كان كل صحابي يحفظ من الاحاديث بقدر ما سمع من وعن الرسول او شاهد من أفعاله وأوصافه لذلك كان بعض الصحابة يحفظ ما لا يحفظه البعض الاخر وكثير من الأحاديث لم يسمعها الا صحابي واحد او صحابيان.
بدأ نشر الحديث في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مشافهة وذلك بتبليغ الصحابي المسلمين الحديث وذلك انصياعا لقول الرسول (بلغوا عني ولو آية) أو لحضور الصحابي حادثة أو مناسبة تناسب ما يحفظ من الحديث فيخبرهم الصحابي الحديث الذي يحفظه الذي يناسب هذه الحادثة ليستفيدون من الحديث إن كان فيه حكم شرعي أو عبرة أو تفصيل أو بشارة وغيرها. كما إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان في بعض الاحيان يخبر الصحابة بنزول حكم شرعي فيأمرهم بنشره وتبليغه لباقي الصحابة.

الحديث في زمن الصحابة.
نقصد بزمن الصحابة الفترة الممتدة بين وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين مقتل عثمان (رضي الله عنه) ولا نقصد بزمن الصحابة الفترة التي عاش فيها الصحابة فقد عاش الصحابة بعد مقتل عثمان لفترة طويلة ولكني رأيت فصل هذه المرحلة عن التي تليها لحدوث تطورات مهمة في مرحلة جمع الحديث.

من هم الصحابة
الصحابي عند معظم المسلمين المسلمون من اهل السنة هو من اسلم في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتقى به وهو مسلم وبقي على اسلامه حتى وفاته (الصحابي). ويتفاضل الصحابة في مكانتهم عند الصحابة انفسهم وبين المسلمين الى يومنا هذا والى يوم القيامة حسب سبقهم في الاسلام وقربهم من رسول الله واظهر رسول الله فضلهم في احاديث له وباعلامه بانهم من اهل الجنة كالخلفاء الاربعة وغيرهم ولكن اتفق اهل السنة إن جميع الصحابة هم على خير وصلاح وصدق يمكن الوثوق بهم في نقلهم احاديث وأخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدون استثناء.
اما عند غير اهل السنة والفرق الاخرى فانهم يقولون ان الصحابة فيهم الصادق والكاذب والصالح والطالح وصنفوهم الى صحابي يعتد ويوثق بحديثه واخرين غير ثقات لايؤخذ بحديثهم واخبارهم وهكذا.
سنستمر باستعراض وتفصيل امر الحديث على اساس إن الصحابي الذي سنذكره لاحقا في شرحنا نقصد به الصحابي الثقة الذي لا غبار او شك في صدقه.

جمع الحديث
استمر جمع الحديث من قبل الصحابة كما في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) حفظا وتدوينا تلقائيا كما قلنا او جمعا مقصودا من قسم من بعض الصحابة الذين حرصوا على ذلك حرصا شديدا حتى روي إن احدهم سمع إن احد الصحابة يروي حديثا معينا فسافر له واستغرق سفره شهراً كاملاً ليصل اليه ليتحقق من ذلك الحديث.

نشر الحديث
بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتشر الصحابة في الفتوحات في جميع ارجاء الدولة الاسلامية في العراق والشام ومصر وغيرها من الدول الإسلامية فانتشر الحديث بانتشارهم.
وانقسم اصحاب الرسول في نشر الحديث الى قسمين :
القسم الاول : معظم القسم الاول من الصحابة الذين حرصوا على جمع الحديث فانهم مثلما حرصوا على جمعه حرصوا على نشره في سبيل نشر سنة الرسول واوامره ونواهيه واخلاقه وتصرفاته حبا في الاسلام وحبا فيه وانقيادا لقول الرسول ( بلغوا عني ولو آية) وبدأوا في اخبار الناس حديث رسول الله وخاصة من غير الصحابة الذين لم يروا رسول الله ولم يعرفوه ويعرفوا اخبار الاسلام حتى انه اصبحت لهم مجالس يقصدهم الناس من مختلف مدن الاسلام ليسمعوا حديث الرسول واصبح هؤلاء الصحابة من اكثر من روى الحديث عن رسول الله لكثرة الناس الذين سمعوا منهم ومنهم "ابو هريرة" و"ابن عمر" و "أنس" وغيرهم.
القسم الثاني : وهم المقلين وهم الاكثرية بالرغم ان منهم من اسلم في بداية الدعوة فلم يرووا إلا القليل وذلك لانشغالهم بالعبادة والعمل الجهاد ولم تكن لهم مجالس لرواية الحديث فقل عدد الرواة الذين سمعوا منهم كما إن بعضهم توفوا في بداية الاسلام وكان بعضهم يخاف من التحديث عن رسول خوفا إن يخطأ في حرف او كلمة فيخبر عن رسول الله ما لم يقله  ومنهم الزبير (رضي الله عنهما) احد السابقين في الاسلام والعشرة المبشرة فعندما سئل لما لم يروي عن رسول الله كالصحابة الآخرين فروى لهم حديثا عن رسول الله ( من كذب عليّ متعمدا فليتبؤ مقعده من النار) فأخبرهم خوفه من إن يقع في خطأ فينطبق حديث رسول الله عليه.
ومن امثلة الصحابة في هذا القسم الخلفاء الاربعة وكثير غيرهم.

الحديث في زمن التابعين
ونقصد بها الفترة التي تلت مقتل عثمان (رضي الله عنه).

من هو التابعي
التابعي هو من لقي الصحابة وبالاتفاق منهم الصالحين والأتقياء والعلماء ومنهم اهل الفتن والبدع والفسوق كل حسب حاله.

جمع الحديث
تأثر التابعين الاتقياء بحرص الصحابة على جمع الحديث ونشره فاقتفوا اثارهم في ذلك فحرصوا على جمع الحديث من الصحابة في مختلف البلدان والمدن واصبح هناك طائفة من المسلمين تسمى باهل الحديث ممن اشتغلوا بجمع الحديث وحفظه وتسميعه .في هذه الفترة امر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث فكان اول امر اميري بذلك فزاد نشاط التدوين في جمع الحديث.

نشر الحديث
شهدت هذه المرحلة بعد مقتل عثمان تحول في مرحلة جمع الحديث ونشره فقبل مقتل عثمان كان التابعين يقرأون او يحدثون باحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) مباشرة بدون الاعتناء بذكر ممن سمع الحديث فكان التابعي يستطيع إن يحدث فيقول قال رسول الله (كذا وكذا) وكان غيره من التابعين والعلماء يتقبلون ذلك . بعد مقتل عثمان واشتراك مجموعة من التابعين في تلك الفتنة تنبه أهل العلم وأهل الحديث من الحريصين على سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إن من التابعين من ليس اهلا للثقة للوثوق في تحديثه عن رسول الله وان من التابعين ممن خرج عن الطريق الصحيح للاسلام لذلك قرروا إن لا يقبلوا الحديث الا من أهل الدين والتقوى البعيدين عن الفتن والفسوق وغير المعروف عنهم الكذب او القيام بأعمال تناقض اعراف الناس وأخلاقهم. وأصبحوا اذا قال الرجل الثقة الصادق : قال رسول الله .. سئلوه من اخبرك الحديث فان قال اخبرني الصحابي الفلاني اخذوا بالحديث وعملوا به لوروده عن تابعي ثقة معروف بالصدق عن صحابي ( والصحابة كلهم ثقات وصدوقين عند اهل الحديث ). ولكن لو قال الرجل الثقة الصادق اخبرني التابعي فلان عن الصحابي فلان إن رسول الله قال .. نظروا الى التابعي فلان بنفس القياس السابق فان كان ثقة صدوق اخذوا بالحديث لوروده عن ثقة صدوق عن ثقة صدوق عن الصحابي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وان كان التابعي فلان معروف عنه فسق او بدع او كذب او كان من اهل الفتن ردوا الحديث ولم يعملوا به لشكهم في صدق الراوي ، وهكذا ظهر ما يسمى عند اهل الحديث بالسند (ومعناه في اللغة الدعم او التقوية من فعل أسند ) ويقصد به طريق وصول الحديث ومجموعة الرجال الذي يروون الحديث انتهاءاً بالصحابي الى رسول الله واصبح السند الوسيلة الرئيسية في تحديد هل إن حديثا نبويا معينا هو صحيح يعمل به او هو حديث مرفوض لا يعمل به لوجود شك في احد رجال او رواة السند ( سمي هذا النوع من الحديث "الضعيف").

الحديث بعد زمن التابعين
ونقصد بها المرحلة التي تلت فترة التابعين حيث ظهر جيل جديد من اهل الحديث اشتغلوا في جمع الحديث حفظا وتدوينا وكان جل اهتمامهم محاولة جمع كل الحديث خوفا من ضياع السنة النبوية او ضياع شيئا منها. وبلغ مجموع الاحاديث المحفوظة مئات الالوف بمختلف اسانيدها وبلغ المدون منها عشرات الالوف حيث احتوى مسند الامام احمد اكثر من 30 الف حديث حوت الصحيح والضعيف.
وصلت عملية جمع الحديث ونشره وحفظه مرحلة عظيمة عمل فيها الاف من المسلمين رواية وحفظا وجمعا وتعليما وتدريسا.

البخاري
هو محمد بن اسماعيل بن ابراهيم سمي بالبخاري نسبة الى مدينة بخارى في احدى دول القوقاز غرب ايران. كان والده من رواة الحديث وبدأ درس الحديث منذ كان في الثالثة عشرة من عمره رحل في طلب العلم وجمع الحديث في ضواحي بخارى ثم انطلق الى مدن ايران والعراق والحجاز والشام في رحلة استغرقت عمره جمع فيها الحديث من مختلف العلماء والمدن وبلغ مجموع ما حفظه مئات الالاف من الاحاديث وقد اطلع البخاري على كتب من سبقه من العلماء وقد وجد انها جمعت الأحاديث الصحيحة والضعيفة كما انها لم تكن مرتبة بشكل مفيد للباحث او الفقيه او طالب العلم لذلك فقد تفتق ذهنه لوضع كتاب يحوي الأحاديث الصحيحة فقط ويكون مرتبا في فصول وابواب تشمل بداية الاسلام ونزول الوحي والعلم والعبادات والمعاملات وسيرة الرسول وغزواته وخلقه والاداب وغيرها تكون مفيدة يسهل لطالب العلم الوصول الى مراده منها مع ثقة الطالب بصحة ما يقرأ من الاحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وكان على البخاري إن يعتمد ضوابط لتمييز الحديث الصحيح عن الضعيف وهذه الضوابط التي ارتأها العلماء فاشترطوا خمس ضوابط  للحديث الصحيح هي:
1-             إن يكون الحديث مسند متصل : أي إن يكون للحديث رواة قد سمع كل من الذي سبقه مباشرة بدون وجود راوي ثالث مجهول الهوية الى ان يصل الراوي الى الصحابي والصحابي الى رسول الله فان انقطع السند لنسيان الرواي الاخير احد الرواة او لجهله باسمه او حاله نزل الحديث عن مرتبة الصحيح.
2-                   إن يكون كل راوي من رواة الحديث : ثقة من المعروفين بالايمان والتقوى والصلاح والصدق البعيدين عن الفسوق والكذب.
3-             ان يكون الراوي من الحفاظ الضابطين لاحاديثهم سواءا كانت حفظا او كتابة فان كان الراوي كثير النسيان او ضعيف الذاكرة او مغفل او يقع في الوهم فانه كان ينزل عن مرتبة رواة الحديث الصحيح.
4-             إن يكون الحديث غير شاذ أي لا يخالف نص الحديث  القرأن او احاديث اخرى صحيحة فينفرد باختلافه عن احاديث صحيحة اكثر عدداً او حديثاً من رواة اقوى دينا وحفظا.
5-             إن يكون الحديث غير معلل : أي الا يكون حاويا على علة خفية تمس السند. حيث إن بعض الاحاديث تظهر اسانيدها متصلة ورواتها من رواة الصحيح ولكن علماء الحديث المدققين يكتشفون فيه علة في السند فيكتشفون انه غير متصل او إن احد الرواة ليس هو الراوي المعروف بالصحيح ، وعلم العلل واسع جدا.
وقد اضاف البخاري شرطين الى هذا الشروط اشترطها في كتابه وهي :
6-             ثبوت اللقاء : اشترط البخاري في الرواة ثبوت اللقاء بين الشيخ والتلميذ بدليل قاطع ولا يكتفي إن يكون الاثنان قد عاشا في زمن واحد او في مدينة واحدة او حجا او اعتمرا في العام نفسه.
7-                   طول الملازمة : بعد ثبوت اللقاء اشترط البخاري طول ملازمة من التلميذ للشيخ لتكون هناك ثقة كافية من إن التلميذ لازم الشيخ مدة كافية ليسمع منه الحديث وليتوثق منه.

ووفق هذه الشروط جمع البخاري كتابه "الصحيح" وضم فيه اقل من ثلاثة الاف حديث (من غير المكرر) صنفها حسب الموضوعات. وقد فصل البخاري كتابه الى كتب وكل كتاب يحوي على ابواب وعنون كل باب بعنوان يفيد المحتوى وذكر في الباب الحديث الصحيح الذي يناسب الباب وقد قدم للحديث بشروح واقوال واحاديث غير مسندة او غير كاملة الاسناد.
وقد تبع البخاري في طريقته هذه تلميذه الامام مسلم فجمع ما يقرب من اربعة الاف حديث (من غير المكرر) فعرف كتابه بصحيح مسلم وفي سنين قليلة ظهرت كتب قريبة الشبه حوت احاديث صحيحة وحسنة واخرى ضعيفة واشهرها سنن الترمذي وسنن ابي داوود وسنن النسائي وسنن ابن ماجة.
كان ظهور صحيح البخاري انجاز فريد في العالم الاسلامي لما تميز من جهد كبير في تصنيف الصحيح وتمييزه بضوابط دقيقة واهتمام الكتاب بجميع نواحي الاسلام وترتيبه ترتيبا سهل الدراسة والبحث بالاضافة ما حوى من علوم مختلفة من علوم الحديث. وبدأ اهل الحديث مرحلة تدقيق هذا الكتاب وصاحبه في حياته فعند وصول البخاري بغداد قام اهل الحديث بعقد اختبار لعلمه في الحديث و قابلية حفظه ومعرفته في الحديث والاسناد فنجح في الاختبار واثبت لهم علمه ومهارته وخبرته بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
اما الإمام مسلم فقد عرض كتابه على كثير من علماء عصره فدققوا كتابه فاثنوا عليه ووافقوا على صحة مافيه من حديث.

مرحلة التدقيق
بعد مرحلة جمع الحديث وظهور كتب الصحيحين والسنن بدأ علماء الحديث مرحلة مهمة جديدة لاتقل أهمية عن المراحل التي سبقتها. بدأت هذه المرحلة بوضع قواعد علم الحديث في كتب وتبادل الاراء والنقاش للوصول بهذا العلم الى اعلى درجة من الكمال فظهرت كتب معرفة الصحابة وهي كتب حوت اسماء جميع الصحابة المعروفين لدى علماء اهل الحديث وهي خطوة مهمة في معرفة اتصال السند برسول الله عن انقطاعه. وظهرت كتب تخص الرجال فهي تجمع اسماء جميع رواة الحديث من التابعين ومن بعدهم وقول العلماء في كل واحد منهم وتصنيفه هل هو من رجال الحديث الصحيح او رجال الحديث الحسن او الضعيف. وظهرت كتب في العلل والاحاديث المعللة وظهرت كتب في مصطلح علم الحديث وكتب في الاحاديث المكذوبة على رسول الله والتي تسمى الاحاديث الموضوعة حيث تجرأ فئات من الناس على الكذب ووضع كلام على رسول الله وهو منه بريء ومن هذه الفئات جهال حسبوا انهم يصنعون خيرا وزنادقة اعداء للإسلام تستروا بالاسلام ليشوهوا الدين وكذابين ارادوا العيش بالكذب على رسول الله. ومن بعد ذلك ظهرت شروح للصحيحين دققت الكتابين وشرحت مافيه من احاديث واحكامها ودققت اسانيدها وبينت المشتبه فيهما واشهر شروح صحيح البخاري كتاب "فتح الباري" الذي كتبه ابن حجر العسقلاني حيث استغرق منه تأليف هذا الكتاب ما يقرب من 29 سنة. وشرح الامام النووي كتاب صحيح مسلم.

أهمية صحيحي البخاري ومسلم.
بعد إن درس أهل الحديث الصحيحين وما ورد فيهما من أحاديث ودققوا اسانيدها اتفقوا إن معظم أحاديث الصحيحين (نستطيع إن نقول 99%) صحيحة لا شك فيها وان نسبة قليلة لا تعدوا 1% فيها شك اختلف فيها العلماء بعضهم ضعفها بينوها في كتب وتحدثوا عنها في شروحاتهم. وان نسبة الخطأ هذه تدل على دقة العالمين وحرصهما وان البشر مما علوا في العلم غير معصومين من الخطأ الا من شاء الله من الرسل والأنبياء.

الطعن في الحديث الصحيح
يشكل الطعن في الحديث شكل من اشكال الحرب الحديثة على الاسلام وهذه الاشكال بشكل مختصر :
1- الطعن في القرآن : وقد ظهر ببدأ ما يسمى بالمستشرقين من الغربيين الذين بدأوا بدراسة القرآن ومحاولة التشكيك فيه فنشروا عشرات الكتب والمقالات وقد رد علماء القرآن والتفسير هذه التشكيكات وبينوا خورها وتفاهتها.
2- الطعن في الرسول : بعد فشل الطعن في القرآن قام المستشرقون بالطعن في شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) مستفيدين من الاحاديث الضعيفة وتأويل بعض الاحاديث الصحيحة بتأويلات مريضة.
3-  الطعن في الصحابة : بعد فشل الطعن في اصل الاسلام وهو القرآن بدأ الطعن في وسائل نقل القرآن وهم الصحابة وبدأ ذلك بطريقة مبتكرة باختيار بعض الصحابة للطعن فيهم كمدخل للطعن في باقي الصحابة ومن ثم في الحديث النبوي. ووقع اختيار المستشرقين والزنادقة على كبار رواة الحديث من الصحابة كابو هريرة وعائشة رضي الله عنهما مستغلين بعض القصص التاريخية والاحاديث النبوية بطرق ملتوية وتفسيرات دنيئة للطعن فيهما وبالتالي الطعن في الاحاديث التي يروونها.
4-  الطعن في البخاري : استمرارا للحرب على الاسلام بدأ الطعن في صحيح البخاري باعتباره اهم مرجع لحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) مستغلين بعض الاحاديث الواردة فيه التي يصعب فهمها على العقول الضيقة او الغريبة في عصرنا الحاضر وجعلوا هذه الاحاديث سببا للطعن في جميع احاديث البخاري وقد قال الله تعالى (( هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم)) فمن قرأ صحيح البخاري وجد فيها عظمة الاسلام وحلاوته وتمام اخلاقه وبديعه واما اصحاب القلوب المريضة فيقرؤنه باحثين عن الشبهات وكل ما جمعوه قليل جدا فسره علماء الحديث في كتبهم وبينوه قبل مئات السنين ولكن مرضى القلوب بدلا من ان يرجعوا الى كتب العلماء يرجعون الى عقولهم الصغيرة ليؤولوا وليثيروا ويفتنوا المسلمين عن دينهم مستغلين جهل المسلمين سنة رسول الله.

فاوصيكم بقراءة كتاب صحيح البخاري وخاصة كتاب الرقاق والادب والغزوات فيها راحة النفوس والابدان .
ما كان في هذا الكتاب من خطأ فمني ومن الشيطان وما كان من حق فمن الله تعالى.
ادعوا لي في يومكم هذا بالتوبة والمغفرة والسداد  والموت على الاسلام والفردوس الأعلى.
غفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين الاحياء منهم والاموات.
والسلام عليكم ورحمة الله.


الثلاثاء، 20 مايو 2014

لمسات بيانية في قصة موسى (عليه السلام ) للدكتور فاضل السامرائي

قصة سيدنا موسى عليه السلام
في البقرة والأعراف

إن قصة سيدنا موسى في البقرة والأعراف تشتركان في قسم من المواطن وتختلفان في الكثير. ففي سورة الأعراف يذكر أموراً لا يذكرها في البقرة، كما يذكر أموراً في البقرة لا يذكرها في الأعراف.
وقد اخترنا نموذجاً من المواقف المتشابهة لنبين الحشد الفني فيه.
قال تعالى في سورة البقرة:
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم وَسَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} .
***
وقال في سرة الأعراف:
{وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هاذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} .
والآن انظر الفروق التعبيرية بين الموطنين
في البقرة في الأعراف
ـــــــــــــــــــ
وإذ قلنا وإذ قيل لهم.
ادخلوا اسكنوا
فكلوا وكلوا
رغداً -
وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً
نغفر لكم خطاياكم نغفر لكم خطيئاتكم
وسنزيد سنزيد
الذين ظلموا الذين ظلموا منهم
فأنزلنا فأرسلنا
على الذين ظلموا عليهم
يفسقون يظلمون
وإذا استسقى موسى لقومه إذ استسقاه قومه
فقلنا اضرب وأوحينا إلى موسى.. أن اضرب
فانفجرت فانبجست.
كلوا وشربوا من رزق الله -
فما سر هذا الاختلاف؟
إن سر الاختلاف يتضح من الاطلاع على سياق الآيات في السورتين، فسياق هذه الآيات في سورة البقرة هو تعداد النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل، ويبدأ الكلام معهم بقوله: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} . ثم يأخذ بسرد النعم عليم ويذكرهم.
أما في سورة الأعراف فالمقام مقام تقريع وتأنيب فإن بني إسرائيل قوم لا يتعظون فإنهم بعدما أنجاهم من البحر وأغرق آل فرعون طلبوا من موسى أن يجعل لهم أصناماً يعبدونها. وعندما ذهب موسى لميقات ربه عبدوا العجل. وإنهم كانوا ينتهكون محارم الله فقد طلب الله منهم أن يعظموا حرمة السبت فانتهكوها وأخذوا يصطادون الحيتان فيه إلى غير ذلك.
فالفرق واضح بين السياقين فناسب يبن كل تعبير والمقام الذي ورد فيه وانظر إلى توضيح ذلك.
قال تعالى في سورة البقرة: (وإذ قلنا) فأسند الرب القول إلى نفسه وقال في سورة الأعراف: (وإذ قيل لهم) ببناء الفعل للمجهول.
والقرآن الكريم يسند الفعل إلى الله سبحانه في مقام التشريف والتكريم ومقام الخير العام والتفضل بخلاف الشر والسوء فإنه لا يذكر فيه نفسه تنزيهاً له عن فعل الشر وإرادة السوء. فإنه مثلاً عندما يذكر النعم ينسبها إليه لأن النعمة خير وتفضل منه. قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] . وقال {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ} [النساء: 72] وقال: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} [النساء: 69] وقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} [الإسراء: 83] . ففي النعمة أظهر نفسه فقال: (أنعمنا) وفي الشر قال: (وإذ مسه الشر) ولم يقل (مسسناه بالشر) أو (أصبناه بالشر) . قوال: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] وقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وقال على لسان سيدنا إبراهيم: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78-80] . فأنت ترى أنه نسب الخير إلى ربه فقال: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] ونسب السوء إلى نفسه فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ولم يقل (وإذا أمرضني) فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى.
وقال: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] فبنى إرادة الشر للمجهول (أَشَرٌّ أُريدَ) ونسب الخير والرشد إلى الرب (أراد بم ربهم رشداً) .
ومن ذلك ما جاء فيه في قصة موسى والرجل الصالح، قال: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 79-82] .
فقال في خرق السفينة: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وقال في قتل الغلام: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] وقال في إقامة الجدار: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82] . فإنه في خرق السفينة نسب العيب إلى نفسه ولم ينسبه إلى الله تعالى تنزيهاً له فقال: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] . أما في قتل الغلام فجاء بالضمير مشتركاً لأن العمل مشترك، فإن فيه قتل غلام وهو في ظاهر الأمر سوء، وإبدال خير منه وهو خير، فجاء بالضمير المشترك للعمل المشترك ثم قال: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ} [الكهف: 81] فأسند الإبدال إلى الله وحده.
وأما إقامة الجدار فَعملٌ كله خير فأسنده إلى الله سبحانه فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82] .
ومن ذلك قوله تعالى: {ولاكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] فأسند تزيين الإيمان في القلوب إلى ذاته سبحانه. وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14] فبنى تزيين حب الشهوات للمجهول ولم ينسبه إلى نفسه. وقال: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [لصافات: 6] وقال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5] وقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16] فأسند هذا التزيين الحسن إلى ذاته.
وقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} . وقال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} [الرعد: 33] . وقال: {كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] . وقال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] . وقال: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل} [غافر: 37] وقال: {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] . وقال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} [الفتح: 12] .
فأنت ترى أنه ينسب تزيين الخير إلى نفسه بخلاف تزيين السوء. إنك قد تجد مثل قوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] ولكن لا تجد: (زينا لهم سوء أعمالهم) فإن الله لا ينسب السوء إلى نفسه.
ومن هذا الباب ما تراه في القرآن الكريم في الكلام على الذين أوتوا الكتاب، فإنه على العموم إذا كان المقام مقامَ مدح وثناء، أظهر ذاته ونسب إيتاء الكتاب إلى نفسه: {آتَيْنَاهُمُ الكتاب} وإذا كان المقام مقام ذم وتقريع قال: (أوتوا الكتاب) . ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} [الجاثية: 16] وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} [الأنعام: 20] وقوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق} [الأنعام: 114] وقوله: {أولائك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وقوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ} [القصص: 52-53] وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت: 47] وقوله: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إبراهيم الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] .
فأنت ترى أنه أسند الإيتاء إلى نفسه في مقام المدح والثناء في حين قال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} وقال: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} . فهو في مقام ذم لهم لأنهم يعلمون الحق ثم يروغون عنه.
وقال: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] .
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] .
وقال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] .
وقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} [آل عمران: 186] .
وقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 187] .
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} [النساء: 44] .
وقال: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أصحاب السبت} [النساء: 47] .
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] .
وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 57] .
وقال: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
وقال: {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] . وغير ذلك من الآيات.
فأنت ترى أنه في مقام الذم يبني فِعْلَ الإيتاء للمجهول.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} .
وقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] .
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب * هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} [غافر: 53-54] . بإسناد الفعل إلى ذاته في مقام المدح.
في حين قال: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14] .
وقال: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] في مقام الذم.
فأنت ترى أن الله سبحانه يذكر ذاته في الخير العام وينسبه إلى نفسه، بخلاف الشر والسوء.
فبنى القول للمجهول في الأعراف ولم يظهر الرب نفسه لأنهم هنا لا يستحقون هذا التشريف، وهو نحو قوله تعالى: (آتيناهم الكتاب) و (أوتوا الكتاب) .
وقال في سورة البقرة: {ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ} أي: أن الأكل يكون عقب الدخول، لأن الفاء تفيد التعقيب، أي: بمجرد دخولكم تأكلون توّاً. وأما في سورة الأعراف فقال: {اسكنوا هاذه القرية وَكُلُواْ} فالأكل لا يكون إلا بعد السكن والاستقرار وليس بعد الدخول.
ثم لاحظ الفرق أيضاً فقد قال في سورة البقرة: (فكلوا) أي: أن الأكل يكون بعد الدخول توّاً ولم يأت بالفاء في الأعراف وإنما جاء بالواو ليفيد أنه ليس هناك من تعقيب، وأن الأكل سيحصل مع السكن ليس موقوتاً بزمن.
وفرق كبير بين الأمرين فهماكما تقول لشخص: أنت بمجرد دخولك يجيئك الأكل، أو تقول له: اذهب واسكن وإن الأكل يأتيك (غير محدد بزمن) .
وقد تقول: إنك جعلت الواو مع السكن أكرم من الفاء في قصة آدم في البقرة والأعراف، فلماذا جعلت الفاء ههنا أكرم؟
والجواب: أن الأمر مختلف، ذلك أن قصة آدم ذكرت السكن في السورتين. قال تعالى في البقرة: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ} . وقال في الأعراف: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ} .
أما في قصة موسى فقد ذكرت الفاء مع الدخول والواو مع السكن. قال تعالى في البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا} . وقال في الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هاذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا} . فالأمر مختلف وذلك أن الأكل في الأولى بعد الدخول، وفي الثانية مع السكن، فقال في البقرة: إنّ الأكل واقع في عقب الدخول، فإذا دختلم أكلتم فوراً من كل مكان شئتم رغداً. وقد جعله في الأعراف مع السكن والاستقرار ولم يحدد لهم الوقت. والدخول غير السكن لأن السكن لا يكون إلا بعد الدخول، فجعل الطعام في البقرة مُهَيَّأ قبل السكن والاستقرار. وفي الأعراف مع السكن بلا تعقيب، فقد يطول الزمن وقد يقصر، فكان الموقف في البقرة أكرم وأفضل.
وقال في سورة البقرة: (رغداً) لأنه مناسب لتعداد النعم ولم يقل: (رغداً) في سورة الأعراف لأن المقام تقريع وتأنيب وأنهم لا يستحقون رغد العيش.
ثم انظر إلى تناظر هذه القصة مع قصة آدم فقد قال في قصة آدم: (رغداً) في البقرة دون الأعراف، نظير ما فعل في قصة موسى، لأن جو البقرة جو تكريم لآدم وتكريم لذريته من بني إسرائيل، في حين كان الجو في الأعراف جو عقوبات وتأنيب فلم يذكر الرغد في القصتين.
فانظر هذه الدقة في مراعاة جو السورة.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدّم (الرغد) في الجنة وأَخَّره في الدنيا، فقال في الجنة: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} وقال في الدنيا: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} لأن الرغد في الدنيا قليل.
ومن ناحية أخرى إنه لو وضعهما موضعاً واحداً لكان المعنى أنهما متساويان في الرغد، وهذا بعيد فإنه ليس من المقعول أن تتساوى الجنة والدنيا الدنيّة في الرغد. كما أن فيه إشارة أن رغد الجنة مقدم على رغد الدنيا، فليعمل العاملون لنيل ذلك الرغد أولاً. فانظر هذا التأليف العجيب.
وقدّم السجود في سورة البقرة على القول فقال: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ} لسبيين والله أعلم:
الأول: لأن السجود أشرف من القول لأنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فناسب مقام التكريم.
الثاني: لأن السياق يقتضي ذلك، فقد جاءت هذه القصة في عقب الأمر بالصلاة قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين * أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *واستعينوا بالصبر والصلاوة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين * الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون * يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} .
فناسب ههنا تقديم السجود لاتصاله بالصلاة والركوع، وكلا الأمرين مرفوع في سورة الأعراف فأخّر السجود.
وقال في سورة البقرة: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم} بجمع الكثرة لأن الخطايا جمع كثرة، وهو مناسب لمقام تعداد النعم والتكريم، أي: مهما كانت خطاياكم كثيرة فإن نغفرها لكم. وقال في سورة الأعراف: (خطيئاتكم) بجمع القلة لأن الجمع السالم يفيد القلة، أي: يغفر لهم خطيئاتٍ قليلة، وهو مناسب لمقام التقريع والتأنيب.
وقال في سورة البقرة: (وسنزيد) فجاء بالواو الدالة على الاهتمام والتنويع، ولم يجىء بها في سورة الأعراف والسبب واضح.
وقال في سورة البقرة: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} .
وقال في سورة الأعراف: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} وذلك لأنه سبق هذا القول في هذه السورة قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . أي: ليسوا جميعاً على هذه الشاكلة من السوء، فناسب هذا التبعيض التبعيض في الآية السابقة.
جاء في (التفسير الكبير) : "قال الله تعالى في سور البقرة: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} وفي الأعراف: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فما الفائدة في زيادة كلمة (منهم) في الأعراف؟
الجواب: سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ (من) لأنه تعالى قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عَدَّدَ صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم. فلما انتهت القصة قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فذكر لفظة (منهم) في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله، فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم، فهناك ذكرَ أمةً عادلة وههنا ذكر أمة جائرة ... وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر التخصيص فظهر الفرق".
ومن ناحية أخرى إن في ذكر (منهم) تصريحاً بأن الظالمين كانوا من بني إسرائيل، ولم يذكر في البقرة (منهم) فلم يصرح بأنهم منهم تكريماً لهم. وكل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه كما هو ظاهر.
وقال في سورة البقرة: (فأنزلنا) . وقال في سورة الأعراف: (فأرسلنا) .
ذلك لأن الإرسال أشد في العقوبة من الإنزال، قال تعالى في أصحاب الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 3-5] . وكل منهما يناسب موطنه.
جاء في (التفسير الكبير) "لِمَ قال في البقرة: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً} وقال في الأعراف: (فأرسلنا) ؟
الجواب: الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية وذلك إنما يحدث بالآخرة".
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن لفظ الإرسال كثر في الأعراف دون البقرة. فقد ورد لفظ الإرسال ومشتقاته في الأعراف ثلاثين مرة، وفي البقرة سبع عشرة مرة، فوضع كل لفظة في المكان الذي هو أليق بها.
جاء في (البرهان) للكرماني أنه عبر بالإرسال في الأعراف دون البقرة "لأن الرسول والرسالة كثرت في الأعراف، فجاء ذلك وفقاً لما قبله، وليس كذلك في سورة البقرة".
وقال في سورة البقرة: {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} .
وقال في سورة الأعراف: (عليهم) وهو أعم من الأول. أي: أن العقوبة أعم وأشمل وهو المناسب لمقام التقريع.
وقال في في سورة البقرة: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} .
وقال في الأعراف: {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} لأن الظلم أشد من الفسق، وهو المناسب لـ (إرسال) العذاب فذكر في كل سياق ما يناسبه.
وقال في سورة البقرة: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} فموسى ههنا هو الذي استسقى رَبَّهُ لقومِه.
وقال في سورة الأعراف: {إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} : أي أن قوم موسى استسقوا موسى، والحالة الأولى أكمل وأبلغ في النعمة.
وقال في سورة البقرة: {فَقُلْنَا اضرب} .
وقال في سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى ... أَنِ اضرب} .
فإن القول المباشر من الله أكمل وأشرف من الإيحاء.
وقال في سورة البقرة: {فانفجرت} .
وقال في سورة الأعراف: {فانبجست} .
وثمة فرق بين الانفجار والانبجاس فإن الانفجار للماء الكثير، والانبجاس للماء القليل. ول تعبير يناسب موطنه. فإن المقام في سورة البقرة مقام تعداد النعم كما ذكرنا. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: إن موسى هو الذي استسقى ربه فناسب إجابته بانفجار الماء. ومن ناحية ثالثة: إن الله قال لموسى: اضرب بعصاك الحجر ولم يوح إليه وحياً، فناسب ذلك انفجار الماء الكثير الغزير، بخلاف ما ورد في سورة الأعراف فجاء بالانبجاس والله أعلم.
وثمة سبب آخر دعا إلى ذكر الانفجار في البقرة والانبجاس في الأعراف علاوة على ما سبق، ذلك أنه قال في البقرة: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله} فجمع لهم بين الأكل والشرب، ولم يرد في الأعراف ذكر الشرب فناسب ذلك أن يبالغ في ذكر الماء في البقرة.
جاء في (البرهان) للكرماني: "قوله: (فانفجرت) وفي الأعراف: (فانبجست) لأن الانفجار انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهور الماء وكان في هذه السورة: {كُلُواْ واشربوا} فذكر بلفظ بليغ. وفي الأعراف: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وليس فيه: (واشربوا) فلم يبالغ فيه.
وقيل: إن الماء أول ما انفجر كان كثيراً ثم قلّ بعصيانهم، فعبر في مقام المدح بالانفجار وفي حالة الذم بالانبجاس.
ومن مقام التكريم في البقرة أنه جمع لهم بين الأكل والشرب فقال: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله} ولم يقل مثل ذلك في الأعراف بل قال: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . وقد قال مثل هذا القول في البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وزاد عليه الجمع بين الأكل والشرب.
ومقام التكريم واضح بيّن، جاء في (معترك الأقران) : "إن آية البقرة في معرض ذكر النعم علهيم حيث قال: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} فناسب نسبة القول إليه تعالى، وناسب قوله: (رغداً) لأن النعم به أتم. وناسب تقديم: {وادخلوا الباب سُجَّداً} وناسب: (خطاياكم) لأنه جمع كثرة. وناسب الواو في: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في (فكلوا) لأن الأكل قريب من الدخول.
وآية الأعراف افتتحت بما به توبيخهم وهو قوله: {اجعل لَّنَآ إلاها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ثم اتخاذهم العجل فناسب ذلك: (وإذ قيل لهم) وناسب ترك (رغداً) والسكن يجامع الأكل فقال: (وكلوا) وناسب تقديم مغفرة الخطايا وترك الواو في (سنزيد) . ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله: {الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ولم يتقدم في البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا، لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم. والإرسال أشد وقعاً من الإنزال، فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة. وختم آية البقرة بـ (يفسقون) ، لأن الفسق لا يلزم منه الظالم، والظلم يلزم منه الفسق فناسب كل لفظ ...
كذا في البقرة: (فانفجرت) وفي الأعراف: (انبجست) لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء".
فانظر جمال هذا التعبير وقدّر أيكون هذا من كلام البشر؟

الاثنين، 19 مايو 2014

ماذا يفعل من رأي رؤيا يكرهها

روينا ، في صحيح البخاري ، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه ، أنه
سمع النَّبيّ  صلى اللّه عليه وسلم  يقول : " إذَا رَأى أحَدُكمْ رُؤْيا يُحِبُّها ، فإنَّمَا
هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعالى ، فَلْيَحْمَدِ اللَّه تَعالى عَلَيْها ، وَلْيُحَدّثْ بِها " وفي رواية " فَلا
يُحَدِّثْ بِها إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ ، وَإذَا رأى غَيْرَ ذلكَ ، مِمَّا يَكْرَهُ ، فإنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطانِ ،
فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّها ، وَلا يَذْآُرْها لأحَدٍ  فإنها لا تَضُّرُّهُ ".

الأحد، 18 مايو 2014

احب الكلام الى الله

وروى مسلم في صحيحه ، عن سَمُرة بن جندب قال :
قال رسول اللّه  صلى اللّه عليه وسلم : " أحَبُّ الكَلامِ إلى اللَّهِ تَعالى أرْبَعٌ :
 

سُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدُ لِلَّهِ وََلاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكبَرُ لا يَضُرّكَ بِأَيَّهِنَّ بَدأتَ ".

السبت، 17 مايو 2014

توبة فارس


أبي محجن عروة بن حبيب، وكان فارساً شاعراً، وكان مشتهراً بالشراب كثيراً يقول فيه؛ فحده عمر رضي الله عنه مرات، ثم أخرجه إلى العراق، فشرب، فحده سعد بن أبي وقاص وسجنه في قصر العذيب، وكان سعد مريضاً في القصر، وأقام المسلمون في حرب القادسية أياماً، فوجهت الأعاجم قوماً إلى القصر ليأخذوا من فيه، فاحتال أبو محجن حتى ركب فرس سعد من غير علمه فخر فأوقع بهم؛ فرآه سعد، فلما انصرف بالظفر خلى سبيله. وقال: لا أضربك بعدها في الشرب، قال: فإني لا أذوقها أبداً.
ودخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له: أبوك الذي يقول ؟
 

إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمةٍ ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها
 

فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو شئت لذكرت من شعره ما هو أحسن من هذا وأنشد:
 

لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم عن بأسي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرّعديدة الفرق
أُعطى السنان غداة الروع حصّته ... وعامل الرمح أرويه من العلق
وأطعن الطعنة النّجلاء عن عرضٍ ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق


فقال: لئن كنا أسأنا المقال، لا نسيء الفعال؛ وأمر له بصلة.