صفحة رقم ١٣٧٣ من الكامل في التاريخ
ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهر
لما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله!
(فقال علي: لا حكم إلا لله) .
وقال حرقوص بن زهير: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودا، وقد قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل: 91] .
فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه. فقال علي: ما هو ذنب ولكنه عجز عن الرأي، وقد نهيتكم. فقال زرعة: يا علي (لئن لم تدع تحكيم) الرجال لأقاتلنك، اطلب وجه الله - تعالى -. فقال علي: بؤسا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح! قال: وددت لو كان ذلك. فخرجا من عنده يحكمان.] قولهم : ﻻحكم الا لله [
و خطب علي ذات يوم، فحكمت المحكمة في جوانب المسجد،
فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم.
فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنى عنه! اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين، إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا. ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة، فأصيبوا مع الخوارج بالنهر، وأصيب أحدهم (بعد ذلك) بالنخيلة.
ثم خطب علي يوما آخر، فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله! ثم توالى عدة رجال يحكمون.
فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، إنما فيكم أمر الله. ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم، فزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال:
اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة. فقال له حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، ف {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] . فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنكم لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرقا من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال. (وكان يقال له ذو الثفنات) .ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنقاذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذها بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعتم، ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى ننزل جسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي.
وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم، يعلمونهم ما اجتمعوا عليه، ويحثونهم على اللحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوه أنهم على اللحاق به. فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم، وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى: {فخرج منها خائفا يترقب} [القصص: 21] إلى {سواء السبيل} [القصص: 22] . وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي، فاتبعه أبوه، فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع، فلما بلغ ساباط لقيه عبد الله بن وهب الراسبي في نحو عشرين فارسا، فأراد عبد الله قتله، فمنعه عمرو بن مالك النبهاني، وبشر بن زيد البولاني، وأرسل عدي إلى سعد بن مسعود عامل علي على المدائن يحذره أمرهم، وأخذ أبواب المدائن، وخرج في الخيل، واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد، وسار في طلبهم. فأخبر عبد الله بن وهب خبره، فرابأ طريقه وسار على بغداد، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عند المساء، فانصرف إليهم عبد الله في ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم.
وقال أصحاب سعد لسعد: ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر؟ خلهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين فإن أمرك باتباعهم اتبعهم، وإن كفاكهم غيرك كان في ذلك عافية لك. فأبى عليهم. فلما جن عليهم الليل خرج عبد الله بن وهب، فعبر دجلة إلى أرض جوخى، وسار إلى النهروان، فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وقالوا: إن كان هلك ولينا الأمر زيد بن حصين، أو حرقوص بن زهير.
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرها، منهم: القعقاع بن قيس الطائي - عم الطرماح بن حكيم -، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي، وبلغ عليا أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج، فأحضره عنده ونهاه فانتهى.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليا أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي، وكان شهد معه الجمل وصفين، ومعه راية خثعم، فقال له: بايع على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر. قال له علي: ويلك! لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونا على شيء من الحق. فبايعه. فنظر إليه علي وقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها. فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي، فلحقهم بالجسر الأكبر، فتوافقوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج مسعر بأصحابه، وأقبل يعترض الناس، وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر.
فخرج جارية، فاجتمع إليه ألف وسبعمائة، فوافوا عليا وهم ثلاثة آلاف ومائتان، فجمع إليه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع ووجوه الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، وأصحابي إلى جهاد المحلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد استنفرت أهل البصرة فأتاني منهم ثلاثة آلاف ومائتان، فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم، ويرفع ذلك إلينا.
فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني فقال: يا أمير المؤمنين سمعا وطاعة، أنا أول الناس أجاب ما طلبت. وقام معقل بن قيس، وعدي بن حاتم، وزياد بن خصفة، وحجر بن عدي، وأشراف الناس والقبائل، فقالوا مثل ذلك، وكتبوا إليه ما طلب، وأمروا أبناءهم وعبيدهم أن يخرجوا معهم، ولا يتخلف منهم متخلف، فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل، وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفا سوى أهل البصرة، وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل. وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة.
ذكر قتال الخوارج
فيل: لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجل يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه، فأفزعوه وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا». قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا.
فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى (متم) ، حتى نزلوا تحت نخل مواقير، فسقطت منه رطبة، فأخذها أحدهم فتركها في فيه، فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها. ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض. فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد آمنتموني قلتم: لا روع عليك. فأضجعوه فذبحوه، فسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان الصيداوية. فلما بلغ عليا قتلهم عبد الله بن خباب، واعتراضهم الناس، بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم، وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه ولا يكتمه. فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه، وأتى عليا الخبر والناس معه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.
وقام إليه الأشعث بن قيس، وكلمه بمثل ذلك، وكان الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم ; لأنه كان يقول يوم صفين: أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله. فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم.
فأجمع علي على ذلك، وخرج فعبر الجسر وسار إليهم، فلقيه منجم في مسيره، فأشار عليه أن يسير وقتا من النهار، فقال له: إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرا شديدا. فخالفه علي، وسار في الوقت الذي نهاه عنه، فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئا: سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر. وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي.
فأرسل علي إلى أهل النهر: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم. فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال لهم: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين! فقال لهم عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر، فقال: ما نعلمه [فينا] غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، أليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدا. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل.
وأتاهم علي فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة! وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم! إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني، فلما فعلت شرطت واستوثقت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما، ونحن على الأمر الأول؟ فمن أين أتيتم؟ فقالوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا، أثمنا، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
فقال علي: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر، أبعد إيماني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين. ثم انصرف عنهم.
وقيل: إنه كان من كلامه لهم: يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ودهنا فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، (رأي معاشر والله، أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فلم آت) ، لا أبا
لكم، هجرا! والله ما ختلتهم عن أموركم، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا (دنيت لكم الضراء) ، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا، فأجمع رأي ملأكم [على] أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والثقة في أيدينا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا، وتضعون أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها! فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟
فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله، (الرواح الرواح إلى الجنة! فعاد علي عنهم) .
ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر، وكانوا غربه، فقال لعلي أصحابه: إنهم قد عبروا النهر. فقال: لن يعبروا. فأرسلوا طليعة، فعاد وأخبرهم أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم، فعاد فقال: إنهم قد عبروا النهر.
فقال علي: والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، ووالله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة! وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكوا في قوله، وارتاب به بعضهم، فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا عليا بحالهم، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه عبأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي، أو معقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وهم سبعمائة أو ثمانمائة - قيس بن سعد بن عبادة، وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي.
وأعطى علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان، فناداهم أبو أيوب فقال: من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن لم يقتل ولم يستعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.
فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا، أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه. فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة. وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فنزلوا الكوفة، وخرج إلى علي نحو مائة، وكانوا أربعة آلاف، فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، (فزحفوا إلى علي) ، وكان علي قد قال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم. فتنادوا: الرواح إلى الجنة! وحملوا على الناس، فافترقت خيل علي فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة، واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبثوا أن أناموهم. فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه: أن انزلوا! فذهبوا لينزلوا، فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي، وجاءتهم الخيل من نحو علي، فأهلكوا في ساعة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا.
ذكر مقتل ذي الثدية
قد روى جماعة أن عليا كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج، أن قوما يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد، سمعوا ذلك منه مرارا، فلما خرج أهل النهروان، سار بهم إليهم علي، وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: ما هو فيهم، وهو يقول: والله إنه لفيهم، والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه جاءه رجل فبشره (فقال: يا أمير المؤمنين) قد وجدناه. وقيل: بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل، ومعه سليم بن ثمامة الحنفي، والريان بن صبرة، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، في خمسين قتيلا، فلما استخرجه نظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة، وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، ثم تترك فتعود إلى منكبيه. فلما رآه
قال: الله أكبر ما كذبت ولا كذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم وهم صرعى: بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم! قالوا: يا أمير المؤمنين من غرهم؟
قال: الشيطان وأنفس أمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.
قيل: وأخذ ما في عسكرهم من شيء، فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والإماء والعبيد، فإنه رده على أهله حين قدم.
وطاف عدي بن حاتم في القتلى على ابنه طرفة فدفنه، ودفن رجال من المسلمين قتلاهم. (فقال علي حين بلغه: أتقتلونهم ثم تدفنونهم؟ ارتحلوا! فارتحل الناس) .
فلم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة. وقيل: كانت الوقعة سنة ثمان وثلاثين. وكان فيمن قتل من أصحابه: يزيد بن نويرة الأنصاري، وله صحبة وسابقة، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وكان أول من قتل.
.... منقول بتصرف
ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهر
لما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله!
(فقال علي: لا حكم إلا لله) .
وقال حرقوص بن زهير: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودا، وقد قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل: 91] .
فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه. فقال علي: ما هو ذنب ولكنه عجز عن الرأي، وقد نهيتكم. فقال زرعة: يا علي (لئن لم تدع تحكيم) الرجال لأقاتلنك، اطلب وجه الله - تعالى -. فقال علي: بؤسا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح! قال: وددت لو كان ذلك. فخرجا من عنده يحكمان.] قولهم : ﻻحكم الا لله [
و خطب علي ذات يوم، فحكمت المحكمة في جوانب المسجد،
فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم.
فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنى عنه! اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين، إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا. ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة، فأصيبوا مع الخوارج بالنهر، وأصيب أحدهم (بعد ذلك) بالنخيلة.
ثم خطب علي يوما آخر، فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله! ثم توالى عدة رجال يحكمون.
فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، إنما فيكم أمر الله. ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم، فزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال:
اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة. فقال له حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، ف {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] . فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنكم لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرقا من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال. (وكان يقال له ذو الثفنات) .ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنقاذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذها بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعتم، ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى ننزل جسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي.
وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم، يعلمونهم ما اجتمعوا عليه، ويحثونهم على اللحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوه أنهم على اللحاق به. فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم، وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى: {فخرج منها خائفا يترقب} [القصص: 21] إلى {سواء السبيل} [القصص: 22] . وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي، فاتبعه أبوه، فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع، فلما بلغ ساباط لقيه عبد الله بن وهب الراسبي في نحو عشرين فارسا، فأراد عبد الله قتله، فمنعه عمرو بن مالك النبهاني، وبشر بن زيد البولاني، وأرسل عدي إلى سعد بن مسعود عامل علي على المدائن يحذره أمرهم، وأخذ أبواب المدائن، وخرج في الخيل، واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد، وسار في طلبهم. فأخبر عبد الله بن وهب خبره، فرابأ طريقه وسار على بغداد، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عند المساء، فانصرف إليهم عبد الله في ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم.
وقال أصحاب سعد لسعد: ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر؟ خلهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين فإن أمرك باتباعهم اتبعهم، وإن كفاكهم غيرك كان في ذلك عافية لك. فأبى عليهم. فلما جن عليهم الليل خرج عبد الله بن وهب، فعبر دجلة إلى أرض جوخى، وسار إلى النهروان، فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وقالوا: إن كان هلك ولينا الأمر زيد بن حصين، أو حرقوص بن زهير.
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرها، منهم: القعقاع بن قيس الطائي - عم الطرماح بن حكيم -، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي، وبلغ عليا أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج، فأحضره عنده ونهاه فانتهى.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليا أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي، وكان شهد معه الجمل وصفين، ومعه راية خثعم، فقال له: بايع على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر. قال له علي: ويلك! لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونا على شيء من الحق. فبايعه. فنظر إليه علي وقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها. فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي، فلحقهم بالجسر الأكبر، فتوافقوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج مسعر بأصحابه، وأقبل يعترض الناس، وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر.
فخرج جارية، فاجتمع إليه ألف وسبعمائة، فوافوا عليا وهم ثلاثة آلاف ومائتان، فجمع إليه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع ووجوه الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، وأصحابي إلى جهاد المحلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد استنفرت أهل البصرة فأتاني منهم ثلاثة آلاف ومائتان، فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم، ويرفع ذلك إلينا.
فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني فقال: يا أمير المؤمنين سمعا وطاعة، أنا أول الناس أجاب ما طلبت. وقام معقل بن قيس، وعدي بن حاتم، وزياد بن خصفة، وحجر بن عدي، وأشراف الناس والقبائل، فقالوا مثل ذلك، وكتبوا إليه ما طلب، وأمروا أبناءهم وعبيدهم أن يخرجوا معهم، ولا يتخلف منهم متخلف، فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل، وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفا سوى أهل البصرة، وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل. وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة.
ذكر قتال الخوارج
فيل: لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجل يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه، فأفزعوه وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا». قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا.
فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى (متم) ، حتى نزلوا تحت نخل مواقير، فسقطت منه رطبة، فأخذها أحدهم فتركها في فيه، فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها. ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض. فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد آمنتموني قلتم: لا روع عليك. فأضجعوه فذبحوه، فسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان الصيداوية. فلما بلغ عليا قتلهم عبد الله بن خباب، واعتراضهم الناس، بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم، وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه ولا يكتمه. فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه، وأتى عليا الخبر والناس معه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.
وقام إليه الأشعث بن قيس، وكلمه بمثل ذلك، وكان الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم ; لأنه كان يقول يوم صفين: أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله. فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم.
فأجمع علي على ذلك، وخرج فعبر الجسر وسار إليهم، فلقيه منجم في مسيره، فأشار عليه أن يسير وقتا من النهار، فقال له: إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرا شديدا. فخالفه علي، وسار في الوقت الذي نهاه عنه، فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئا: سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر. وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي.
فأرسل علي إلى أهل النهر: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم. فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال لهم: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين! فقال لهم عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر، فقال: ما نعلمه [فينا] غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، أليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدا. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل.
وأتاهم علي فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة! وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم! إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني، فلما فعلت شرطت واستوثقت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما، ونحن على الأمر الأول؟ فمن أين أتيتم؟ فقالوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا، أثمنا، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
فقال علي: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر، أبعد إيماني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين. ثم انصرف عنهم.
وقيل: إنه كان من كلامه لهم: يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ودهنا فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، (رأي معاشر والله، أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فلم آت) ، لا أبا
لكم، هجرا! والله ما ختلتهم عن أموركم، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا (دنيت لكم الضراء) ، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا، فأجمع رأي ملأكم [على] أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والثقة في أيدينا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا، وتضعون أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها! فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟
فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله، (الرواح الرواح إلى الجنة! فعاد علي عنهم) .
ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر، وكانوا غربه، فقال لعلي أصحابه: إنهم قد عبروا النهر. فقال: لن يعبروا. فأرسلوا طليعة، فعاد وأخبرهم أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم، فعاد فقال: إنهم قد عبروا النهر.
فقال علي: والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، ووالله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة! وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكوا في قوله، وارتاب به بعضهم، فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا عليا بحالهم، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه عبأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي، أو معقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وهم سبعمائة أو ثمانمائة - قيس بن سعد بن عبادة، وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي.
وأعطى علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان، فناداهم أبو أيوب فقال: من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن لم يقتل ولم يستعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.
فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا، أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه. فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة. وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فنزلوا الكوفة، وخرج إلى علي نحو مائة، وكانوا أربعة آلاف، فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، (فزحفوا إلى علي) ، وكان علي قد قال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم. فتنادوا: الرواح إلى الجنة! وحملوا على الناس، فافترقت خيل علي فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة، واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبثوا أن أناموهم. فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه: أن انزلوا! فذهبوا لينزلوا، فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي، وجاءتهم الخيل من نحو علي، فأهلكوا في ساعة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا.
ذكر مقتل ذي الثدية
قد روى جماعة أن عليا كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج، أن قوما يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد، سمعوا ذلك منه مرارا، فلما خرج أهل النهروان، سار بهم إليهم علي، وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: ما هو فيهم، وهو يقول: والله إنه لفيهم، والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه جاءه رجل فبشره (فقال: يا أمير المؤمنين) قد وجدناه. وقيل: بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل، ومعه سليم بن ثمامة الحنفي، والريان بن صبرة، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، في خمسين قتيلا، فلما استخرجه نظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة، وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، ثم تترك فتعود إلى منكبيه. فلما رآه
قال: الله أكبر ما كذبت ولا كذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم وهم صرعى: بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم! قالوا: يا أمير المؤمنين من غرهم؟
قال: الشيطان وأنفس أمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.
قيل: وأخذ ما في عسكرهم من شيء، فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والإماء والعبيد، فإنه رده على أهله حين قدم.
وطاف عدي بن حاتم في القتلى على ابنه طرفة فدفنه، ودفن رجال من المسلمين قتلاهم. (فقال علي حين بلغه: أتقتلونهم ثم تدفنونهم؟ ارتحلوا! فارتحل الناس) .
فلم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة. وقيل: كانت الوقعة سنة ثمان وثلاثين. وكان فيمن قتل من أصحابه: يزيد بن نويرة الأنصاري، وله صحبة وسابقة، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وكان أول من قتل.
.... منقول بتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق