الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

على ماذا نبكي ؟؟!!

السؤال على ماذا نبكي ؟؟!!.. نبكي على مصائبنا وآلامنا ..
هذا يبكي على أبٍ أو أم ..
وذاك يبكي على أخٍ أو أخت ..
وآخر يبكي على صاحب أو حبيب أو قريب ..
وذاك يبكي لخسارة مادية أو مشكلة اجتماعية ..
بل الأدهى والأطم هناك من يبكي على أحداث في مسلسلات وشاشات وقنوات ..
وآخر يبكي على خسارة في المباريات ..فيا خسارة هؤلاء ..
شتان والله بين دموعهم ودموعنا ..
بكت أم أيمن ..
بكت أم أيمن رضي الله عنها لما جاءها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يزورانها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالا لها :
يا أم ما يبكيك ؟..
يا أم أيمن ما يبكيك أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله !!..
قالت : بلى أعلم أنَّ ما عند الله خير لرسوله ، ولكن أبكي انقطاع الوحي من السماء ..

بكت همَّا وحزنا وخوفاً على الأمة بعد نبيها ..
فماذا عساى أن أقول عنهم وعن أخبارهم..
فمنهم من بلَّ الأرض بدموعه ..
ومنهم من إذا ذُكرت النار خرَّ على وجهه مغشياً عليه ..
بل منهم من إذا سمع الأذان ارتعدت فرائصه ..
ومنهم من إذا توضأ للصلاة احمَّر وجهه ، وسالت دموعه ..
اسمع وافتح القلب قبل أن تفتح الآذان ..
زارت امرأة زوجة الأوزاعي ، فدخلت إلى مصلاه في البيت فإذا هو مبلول ، فجاءت تقول لزوجته : ثكلتك أمك .. غفلت عن الصبيان فبالوا في مصلى الأوزاعي..
فقالت زوجة الأوزاعي : ويحك هذه دموع الأوزاعي في مصلاه ..

بكى الباكون للرحمن ليلاً
بقاع الأرض من شوقٍ إليهم
وباتوا دمعهم ما يسأمونا
تحنّ متى عليها يسجدونا
ما أغلى تلك الدموع ..
وما أغلى ثمنها ..
إنَّ القلوب لتحيى بسماع أخبار الصالحين وآثارهم ..
وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ..
عباد الله..
إياكم أن تقولوا أنَّ للبكاء علاقة بضعف الشخصية ..
أو أن البكاء لا يليق بأهل الشجاعة والبأس..
نعم ..
لا يليق البكاء عند الوقوف في وجه الأعداء ..
ولا يليق البكاء عند سماع صهيل الخيل ، ومقارعة السيوف ، وتطاير الأشلاء ..
فهذا فعل الجبناء..
فالبكاء الذي نعنيه وما نحن بصدده ..
هو البكاء :
خشية ..
ورهبة ..
وخضوعاً ..
وذلاً ..
وعبودية لله ربِّ العالمين ..
إنه بكاء الذل والمسكنة لذي الجلال والعزة والجبروت ..
إنه البكاء خوفاً من الحي الذي لا يموت ..
فهذا عبد الله بن الشّخّير رضي الله عنه يقول عن سيد الخلق أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
يبكي وهو سيد الشجعان وأشجع الفرسان..

ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمروا أبا بكر للصلاة في الناس في مرضه صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها :
إنَّ أبا بكر رجل أسيف - أي رقيق القلب ، سريع البكاء - إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة ..
وفي رواية إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء..
لكن انظر إلى حزمه وقوته وصلابته أيام الردة يوم أن تصدى للمرتدين ..
وما أكثرهم اليوم ..
فتصدى لهم الصديق رضي الله عنه ، ونصر الله به الدين رغم كثرة المخالفين..
أما الفاروق عمر فمعروف أنه شديد ، القوة شديد البأس ومع هذا كان حاضر الدمعة ، رقيق القلب ..
روى البخاري عن عبد الله بن شداد قال : سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف وهو يقرأ { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } ..
قل لي واصدقني المقال..
أما تبكيك آيات القرآن !!!..
أما تبكيك آيات القرآن وهي تخبرك ..
عن الجنة وأوصافها ..
وعن النار وأخبارها ..
قال الله عن كتابه ، وعن أثر آياته على عباده الصالحين :{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
يقول ابن مسعود كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : ( اقرأ علي القرآن )..
قلت : أقرأ عليك وعليك أُنزل !!.
قال صلى الله عليه وسلم : ( إني أحب أن أسمعه من غيري )..
قال ابن مسعود فافتتحت سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تبارك وتعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } - والخطاب له صلى الله عليه وسلم { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } ..
قال : فلما بلغت ذلك قال لي صلى الله عليه وسلم : ( حسبك يا ابن مسعود )..
قال : فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان ..
تذرفان خوفاً وخشية من الجبار ..

تذرفان شفقة ورأفة بأمته ..
وسأكمل لكم ، وأقرأعليكم الآية التي تليها حتى تعلم عظيم ذلك الموقف ، وذلك المشهد العظيم قال الله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً }..
يالله .. أما بكيت شوقاً لله !! ..
أما بكيت شوقاً لله ، وسكنى جنته في جواره ..
أما بكيت خوفاً من دخول النار ، والحرمان من رؤية القهَّار ..
اسمع ماذا قال الله عن أهل النار { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ،كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ،ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ،ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ }
والله .. والله .. والله...
ما في الجنة نعيم ألذ وأحلى وأعظم من ...
رؤية الرحمن الرحيم ...
ووالله .. والله.. والله ...
ما في النار عذاب أشد وأعظم من ...
الحرمان من رؤية وجهه الكريم ..
قال ابن عثيمين رحمه الله : والله لو أنَّ القلوب سليمة لتقطّعت ألماً ولتفطّرت حزناً وهي تقرأ قول الله مخاطباً عباده:{ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ..
وأي بشارة أعظم من لقاء الحبيب ...
فكل حبيب يشتاق إلى لقاء حبيبه ...
قال صالح المري بلغني عن كعب الأحبار أنه كان يقول :
من بكى خشية من ذنب ، غُفر له ..
ومن بكى اشتياقاً إلى الله ، أباحه النظر إليه تبارك وتعالى يراه متى شاء..
وحدث عيسى المعلم عن ذادان أبي عمر قال :
بلغنا أنه من بكى خوفاً من النار ، أعاذه الله منها ..
ومن بكى شوقاً إلى الجنة ، أسكنه الله إياها ..
اللهم لا تحرمنا فضلك ..

عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : ( لا تنسوا العظيمتين ).. ( لا تنسوا العظيمتين )..
قلنا : وما العظيمتان ،؟!.
قال : ( الجنة والنار ) .

قال فذكر سول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر ثم بكى حتى جرى أوائل دموعه جانبي لحيته ثم قال : ( والذي نفس محمد بيده لو علمتم ما أعلم من علم الآخرة لمشيتم إلى الصعيد ، ولحسيتم على رؤوسكم التراب )
وفي حديث آخر : ( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ) ..
فلما سمع أبو ذر هذا قال : وددت أني كنت شجرة تعضد ..
والله لو أن القلوب سليمة لتقطّعت ألماً من الحرمان ..
ولكنها سكرى بحب حياتها الدنيا وسوف تفيق بعد زمان ..
قال ابن القيم رحمه الله : فمن لم يتقطّع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفاً لتقطّع في الآخرة إذا حقت الحقائق، وظهرت الأمور..
فلا بدّّ من تقطّع القلب ..
إما في الدنيا ..
وإما في الآخرة ..
ولك الخيار..
الفرق بيننا وبينهم أنَّ الكلمات القليلة البسطية تذكرهم وتبكيهم ..
ونحن نسمع الزواجر والروادع مرات مرات ولا يتغير الحال ..
أراد عمر بن عبد العزيز أن يضرب غلاماً له على خطأ أخطأه ..
فقال له الغلام : يا عمر ..اتق الله ..
فقال له الغلام : يا عمر ..اتق الله يا عمر ..واذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة ..
قال : فبكى عمر ، ولم يتوقف بكاءه إلا عندما سمع المنادي يناديه
، وهو في ساعات احتضاره ، وهو يقرأ عليه { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }..
أسألك مرة أخرى ..
وأكرر عليك السؤال ..
أما تبكيك الذنوب ؟!.
أما يبكيك تجرأك على علام الغيوب ؟!.
اسمعوا يا أصحاب الذنوب .. وكلنا ذاك ..
عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟
قال :
( أمسك عليك لسانك ..
وليسعك بيتك ..
وابك على خطيئتك )

إبكي ..
قبل أن تشهد عليك الجوارح والأركان ..
إبكي ..
قبل أن تقف في ذلك الموقف العظيم ، ثم يقررك الملك العلام..
يقررك بذنوبك فيقول لك : أتذكر ذنب كذا ؟! أتذكر ذنب كذا ؟! وأنت لا تجد مفراً من السؤال ..
إبكي..
قبل أن يسألك ربك :
ألم تكن تظن أني أراك وأنت تعصاني ؟؟!!.
أما استحييت مني وأنت تختبأ عن أعين الناس وتنساني؟؟!!..
إبكي ..
فإن العبد إذا بكى بين يدي سيده رحمه ..
إبكي ..
فإن العبد إذا بكى بين يدي سيده رحمه ..
إبكي ..
فإن الطفل إذا بكى رحمته أمه ، وربنا أرحم بنا من إمهاتنا ..بل حتى من أنفسنا..


*** من كتاب البكاؤون للشيخ خالد الراشد

ليست هناك تعليقات: