الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

اسرار البيان في التعبير القرآني (الحذف في القرأن)



الحذف في القرآن الكريم يتعلق بأمرين :
أولاً : في مقام التفصيل والإيجاز كما في قوله تعالى في سورة البقرة (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25}) وفي سورة الأحزاب: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً {47}). ذكرت الباء مع المؤمنين في حين حذفت في آية سورة البقرة.
آية سورة البقرة هي آية مفردة في المؤمنين لم يسبقها أو يليها ما يتعلّق بالمؤمنين ، أما آية سورة الأحزاب فسياقها في ذكر المؤمنين (يا أيها الذين آمنوا) إلى قوله تعالى (وبشر المؤمنين) فاقتضى السياق والتفضيل ذكر الباء في آية سورة الأحزاب.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ {83}) ذكرت الباء مع (بالوالدين) وحذفت مع كلمة (ذي القربى) أما في سورة النساء (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً {36}) فقد ذكرت الباء مع الوالدين ومع ذي القربى. وذلك لأن السياق في سورة النساء والكلام عن القرابات من أول السورة إلى آخرها وليس فقط في الآية التي بين أيدينا. إذن ذكر الباء مع ذي القربى في هذه الآية من سورة النساء كان لمراعاة التفضيل والتوكيد. أما في آية سورة البقرة فليس السياق في القرابات فحذفت الباء في (ذي القربى) مراعاة للإيجاز.
مثال آخر: في سورة آل عمران (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {184}) حذف الباء مع كلمة (الزبر) وكلمة (الكتاب) أما في سورة فاطر (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {25}) ذكر الباء مع كلمتي الزبر والكتاب. المقام في سورة فاطر مقام التوكيد والتفصيل بخلاف ما ورد في سورة آل عمران، والكلام في سورة فاطر للتوكيد والتفصيل في مقام الإنذار والدعوة والتبليغ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {18}) إلى قوله تعالى (إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ {23} إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ {24}) فالسياق إذن في الإنذار والدعوة والتبليغ ويستمر السياق في الكلام عن الذين يستجيبون والذين لا يستجيبون وأن هذه الكتب التي ذكرت في الآية هي كتب الإنذار (الزبر، الكتاب المبين، البينات). أما في سورة آل عمران فالآية تعقيب على محادثة تاريخية معينة (الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {183}) فالمقام هنا مقام حادثة معينة وليس في سياق الآيات فاختلف الأمر هنا ولهذا حذفت الباء لأنه مناسب للإيجاز.
سورة فاطر فيها مقام التوكيد ومقام التفصيل:
مقام التوكيد في سورة فاطر : (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {25}) وجاء بصيغة الفعل المضارع في (يكذبوك) للدلالة على الإستمرارية وفيه التصديق والتكذيب مستمران (هو فعل شرط مضارع) أما في سورة آل عمران فقد جاء الفعل ماضياً (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {184}) وهذه قاعدة في القرآن إذا كان فعل الشرط مضارعاً دلّ على استمرارية الحدث وإذا كان فعل الشرط ماضياً فهو يدلّ على الحدوث مرة واحدة.
وذكر تاء التأنيث في سورة فاطر (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {25}) يفيد التوكيد أيضاً أما في سورة آل عمران فجاءت الآية () والتذكير يدل على الكثرة كما في قوله تعالى (وقال نسوة في المدينة) فعل يدل على القلّة بصيغة التذكير. وكذلك قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا) دلالة على الكثرة فجاء الفعل مؤنثاً بتاء التأنيث. وعليه ففي سورة فاطر الآية (جاءتهم رسلهم) تدل على كثرة الرسل في سورة فاطر أما في سورة آل عمران فالتذكير يفيد أن الحادثة وقعت مرة واحدة.
مقام التخصيص في سورة فاطر: في سورة آل عمران الفعل مبني للمجهول (كُذّب رسل) في حين في سورة فاطر ذكر الفاعل (كذب الذين من قبلهم) وقال تعالى في سورة فاطر (جاءتهم رسلهم) بذكر الفاعل الظاهر أما في سورة آل عمران فقال تعالى (جاءوا) بدون ذكر الفاعل الظاهر.
إذن ذكر الباء مع كل معطوف في سورة فاطر وحذف الباء مع المعطوف في سورة آل عمران وكل ما سبق ذكره في سورة فاطر وآل عمران يقتضي ذكر الباء في آية سورة فاطر وحذفها في آية سورة آل عمران.

للدكتور فاضل السامرائي

ليست هناك تعليقات: