بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي خلق العقل وانعم به على الانسان فميزه على سائر المخلوقات وفضله به على الحيوان. فالانسان لا يتميز شكلا ولا حياة من اكل وشرب عن الحيوان فهو يشبه الحيوان في كثير من هذه التفاصيل ولكنه يتميز عنه بالعقل فبالعقل بنى الانسان الحضارات والامم والدول وزرع الارض وصنع الصلب واكتشف الاعاجيب وتفكر في الكون ونظر الى النجوم وطار الى الفضاء . فاذا تفكر الانسان في قيمة هذا العقل وامكانياته فكان عليه اولا ان يشكر المنعم الذي انعم عليه بهذا العقل واول الشكر ان يعرف ربه بمعرفة الدين الحق الذي به يتقرب الى ربه المنعم ويشكره ويعبده بالطريقة الصحيحة التي توصله الى شكر المنعم والحصول على مرضاته. اما من شك بوجود الخالق فهو كمن انكر العقل وقال انا لا عقل لي. ان الله جعل العقل دليلا على وجوده وكمال صفاته وحاسب الانسان على اعماله لانه رزقه العقل فكان على الانسان اول ما يستعمل العقل في معرفة الحق الذي يعرف به الرب.
ولضعف الانسان واختلاف العقول وامكانياتها ودخول النسيان والامراض على العقول ارسى الله تعالى في الكون ثوابت وقوانين لا تتغير عرفها الانسان منذ خلقه وما زال يكتشفها حتى الان فمنها شروق الشمس من الشرق يوميا وغروبها ونزول المطر من السماء وخروج النبات من الارض وصولا الى قوانين الجاذبية والنجوم و غيرها كثير. وجعل هذه الثوابت والقوانين دليلا على وجود الصانع المبدع الخالق الواحد الذي خلق كل شيء ونظم الخلق كله وفق القانون نفسه والنظام الثابت. وجعل هذ القوانين مقاييس يقيس عليها الخير والشر والحق والباطل فمن زعم ان الشمس تشرق من المغرب فقد خالف الحق فاصبح من اهل الباطل ومن اثبت ظهورها من المشرق عرف بالحق. وهكذا.
وكان من سننه وقوانينه سبحانه ان ارسل الانبياء والرسل لتذكر بالحق وهو ان يعرف الانسان ان له ربا عليه ان يعبده ويطيعه اعترافا بفضل الخالق ومن ثم لما في ذلك من مصلحته الدنيوية والأخروية.
فارسل الله ادم عليه السلام ابو البشر بالحق فعلم ذريته ان لا اله الا الله فامرهم بالخير ونهاهم عن الشر ثم توفي وترك ذرية صالحة تعبد الله وبعد قرون توفي الاباء وجاء احفاد الاحفاد ونسى البشر الحق وانتشرت الاهواء وعبد البشر البشر والحجارة وتركوا عبادة ربهم فارسل الله تعالى انبياء آخرين تذكر الناس بالحق وهكذا حتى ارسل الله تعالى نوحا عليه السلام فدعى قومه الى الحق فلبث فيهم الف سنة الا خمسين ثم نجاه الله واتباعه المؤمنين في السفينة وحكم على العصاة بالعقوبة المستحقة في الدنيا جزاء اعمالهم. وتوفي نوحا وترك ذرية طيبة صالحة انتشرت في الارض وتناسلت وخرجت منها امم الارض.
ثم انتشرت المعصية والكفر واستمر الله سبحانه وتعالى بالنعم على البشر بإرساله الأنبياء لكل الأمم مذكرا وداعيا إلى الحق فنصر الله هود وصالح وشعيب ونجاهم وأتباعهم المؤمنين وقضى على أعدائهم الطغاة. ثم أرسل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أهل بابل ثم خرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدينه واتباعه داعيا الى الله تعالى فرحل الى مصر والشام والحجاز ولم يتوفى حتى كان أتباعه الصالحين يملئون الأرض وذريته الصالحة إسحاق ويعقوب في الشام وإسماعيل في الحجاز ينشرون الحق ويدفعون دعوة الحق. ومرت السنين والأزمان واستمر إرسال الأنبياء حتى جاءت رسالة موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وأدى موسى الرسالة وتوفي عن امة عابدة مؤمنة وقضى الله على أعدائهم من الكفرة والطاغين من آل فرعون وبقيت رسالة موسى يحملها أتباعه المؤمنون حتى دخلوا بها ارض فلسطين بعد أكثر من أربعين سنة وجاء من بعد ذلك داوود وسليمان عليهما السلام فأمروا بالحق وأوصل سليمان الدعوة الى أقاصي الأرض وحتى أوصلها الى اليمن وترك الإيمان بعد وفاته في ارض المعمورة من الشام في الشمال الى اليمن في الجنوب. وهذه السيرة التاريخية اتفق عليها اهل التاريخ من الملاحدة والمتدينين يهودا ونصارى ومسلمين فمن نظر فيها وتفكر تفكرا خالصا بعيد عن التعصب وانشغل عقله في التدبر فيها وجد فيها سنن كونية لله تعالى ثابتة كثبوت النهار والليل والشمس والقمر فمنها :
1- ان الحق هو لا اله الا الله .
2- ان الحق نزل مع ادم واستمر في كل زمان ومكان مع قلة أصحابه حينا وكثرتهم حينا آخر.
3- ان الله أرسل الأنبياء والرسل للتذكير بالحق وان لا اله الا الله .
4- ان جميع الرسل والأنبياء هم من البشر يأكلون ويشربون ويتزوجون.
5- ان الله انزل معجزات لهولاء الرسل آمن بهم اقوامهم.
6- ان النصر في النهاية للرسل ولدعوتهم.
7- ان الله لايتوفى الرسل الا بعد تبليغهم رسالاتهم وإظهارها على الكفر.
8- ان الرسول يترك من بعده امة مؤمنة من الصالحين والدعاة لرسالته ينتشرون في الارض وينشرون دعوته.
ان هذه السنن يدركها من تفكر بعقله في سيرة الامم وتاريخها وسيرة الأنبياء. فاذا ثبتنا هذه السنن وجعلناها اساسا للقياس استوضحنا ما اختلف على بعض العقول وعلى بعض المؤمنين .
ثم جاء المسيح عليه السلام او يسوع في كتب النصارى فجاء بمعجزات كسابقه من الانبياء وهنا حدث الاختلاف فاما اليهود فقالوه عنه:
1- ابن زنا.
2- وقالوا عنه كافر وكذاب.
3- وقالوا عن معجزاته انها سحر.
4- وقالوا انه عذب وقتل.
وهنا نتوقف ونشغل العقل بعد ان ندرس التفاصيل الدقيقة المحيطة بالمسيح ونحلل كل جملة مما سبق.:
1- قولهم ابن زنا لان امه مريم عليها السلام ولدته من دون زوج فان ذلك مما يقبله العقل في الظروف العادية ولكن لو اننا نظرنا الى ان مريم كانت تحت وصاية وكفالة نبي بني اسرائيل زكريا وهم يشهدون له بالنبوة ورأوا معجزة ولادة ابنه يحيى على كبر عمره وزوجه العاقر لكان عليه ان يتساءلوا كيف ان نبي يأتيه الوحي والغيب من السماء يضيع امانته في الحفاظ على شرف مريم وان يضعوا علامة استفهام وان يترددوا في ذلك الاتهام.
2- اما اتهامهم له بالكفر والكذب فان المسيح لم يأتي بما يناقض دعوة موسى او الانبياء السابقين في التوحيد او الامر بالمعروف او النهي عن المنكر فاتهامه بالكذب او الكفر غريب.
3- وتكذيبهم معجزاته وتأويلها على انها سحر فان معجزاته من احياء الموتى وعلاج الاعمى والابرص وغيرها فيها من خرق قوانين وسنن الله بما يعجز عنها كبار الأطباء والسحرة سابقا ولاحقا وان معجزاته من غير المعقول ان تصنف على انها سحر بل ان هذه المعجزات دليلا قوي على صدق رسالته ونبوته.
4- وادعى اليهود قتله لما رأوه من قيام الروم بتعذيبه وصلبه حتى الموت امام الناس.
اما النصارى اتباع المسيح فيقولون :
1- ان المسيح عليه السلام ليس ابن زنا بل هو اله.
2- انه اله نزل الى الارض لهداية البشر الى السلام والنجاة
3- انه اتى بمعجزات عظيمة تدل على الوهيته.
4- انه عذب وقتل.
وهنا ايضا نشغل العقل ونقارن هذه الاقوال بسنن الله التي أثبتناها من تاريخ الامم السابقة.
1- نلاحظ ان دعوة الانبياء السابقين قد تغيرت في رسالة عيسى عليه السلام فكانت الدعوة الى عبادة اله واحد هو الله فقد تغيرت الدعوة واختلفت باختلاف فرق النصارى فصارت الدعوة الى عبادة المسيح الذي هو اله نزل الى الارض كما قالت فرقة او عبادة الابن اضافة الى الاب كما ادعت الفرقة الثانية او عبادة الالهة الثلاث الاب والابن وروح القدس والمعلوم ان الرب الخالق هو الله فهل عند رسالة المسيح طرا طاريء جعل الرب يقسم الالوهية بينه وبين الابن او الى ثلاثة اقسام باضافة روح القدس وكل ذلك فيه نظر.
2- اما قولهم انه ليس ابن زنا فهذه ما يوافق الشك الذي يرده العقل على اليهود اما قولهم انه ليس من البشر فهنا نلاحظ ان ما يرووه عنه من ولادته ونشأته وطعامه وشرابه وهيأته لا تميزه عن البشر في الشكل والتصرف.
3- اما دعواهم انه اله فاننا نلاحظ انهم اختلفوا في ذلك على ثلاث فرق مشهورة موجودة لهذا اليوم ففرقة قالت انه الله نزل في هيئة المسيح وفرقة قالت انه ابن الله وفرقة قالت انه ثالث ثلاثة الهة وهذا الاختلاف يثير الشك فلو ان المسيح صرح بانه اله فلا بد انه صرح باي من الاوصاف الثلاثة السابقة فلما اختلفوا في ذلك ادخل ذلك شك اخر في انه صرح باي الاوصاف الثلاثة فان قالوا انه صرح ولكن اختلف الاتباع في نقل الخبر بقي الشك قائما فاذا رجعنا الى اصل القول بالوهيته لاحظنا ان نزول اله بالرسالة خرق لسنن الله السابقة في ارسال البشر بالرسالة فعلى العقل ان يتساءل في حكمة ارسال اله في هذه الرسالة فان قالوا ان هذه الرسالة فيها من الرحمة والسلام استدعت ذلك فاننا لا نلاحظ اختلافا كبيرا في الدعوة من حيث الاسلوب والطريقة عن سابقاتها من الدعوات وفي ما لاقته من كفر ومحاربة مما يعجز العقل عن فهمه في حكمة نزول اله بهذه الدعوة في حين ان ما قام به المسيح من العمل والدعوة لا يختلف عما قام به الرسل من البشر ممن سبقوه من كنوح وابراهيم وموسى وغيرهم عليهم السلام.
4- اما القول بان معجزاته من احياء الاموات وصنع الطير والنفخ فيه فيتحول الطير الى كائن حي وشفاء المرضى تدل على الوهيته فهذا ايضا يحتاج الى التوقف فاننا اذا نظرنا بمعجزات من سبقه وجدنا ان ابراهيم عليه السلام القي في النار فخرج منها دون ان تحترق منه شعرة وان احياء الطيور الميتة جرى على يديه. واما موسى عليه السلام فانه كان يلقي عصا من الخشب فتتحول الى حية تأكل غيرها وانه يدخل يده ويخرجها فتتغير حالها ولونها وقد احيا الله تعالى على يده البشر ايضا بضربه بعظم بقرة ميتة وضرب موسى بعصاه حجر اصم فانبع الماء منه وضرب البحر فانقسم نصفين وغيرها من المعجزات العجيبة وسليمان عليه السلام فان الجن والشياطين كانت تخدمه وكانت تذهب به الريح الى الارض التي يريد وياتيه عماله بما يريد من أقاصي الارض بلمحة البصر فاننا اذا قسنا هذه المعجزات بمعجزات المسيح فاما نقول انهم ايضا كانوا الهة بما ظهر على ايديهم من معجزات او نتوقف فنقول ان معجزات المسيح ليست دليلا على انه اله.
5- اما قولهم انه عذب وقتل فهنا ايضا للعقل وقفة وتردد وشك فاننا ان رجعنا الى سنن الله تعالى السابقة نجد ان الرسل خاصة ومعظم الانبياء انتصروا في نهاية الدعوة وعاشوا لحظات النصر قبل وفاتهم فانتصر نوح وابراهيم وموسى واظهرهم الله على اعدائهم فان قالوا ان ذلك من خرق السنن ولحكمة خاصة به فان مايذكرونه من تعذيبه واذلاله واهانته بالطواف به عريان في الشوارع ومن ثم صلبه حتى الموت مالم يجري على نبي من الانبياء السابقين فكيف بالمسيح وهو صاحب رسالة عظيمة وذلك ايضا يسبب شك كبير فانهم فوق ذلك وما اصابه من اذلال وتعذيب وقتل فانه يقولون هو اله ولو كان القول انه من البشر لكان الامر اهون على العقل فان البشر العاصين فعلوا بالإله ما لم يفعله من سبقهم بنبي من البشر. فان قالوا ان ما جرى من التنكيل والتعذيب كان لخلاص أنصار وأتباع المسيح من العذاب وضمهم في الرحمة الأبدية فذلك أيضا عجيب فان سنن الله السابقة ان الرسالة كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتبشر الصالحين بالخير وتنذر العصاة والمذنيين بالشر فهنا نجد في الرد على الفرق الثلاثة للنصارى فانهم :
6- اما ان الله نزل الى الارض ليتعذب ويهان من قبل مخلوقاته من البشر المذنبين ليتحمل اوزار الاتباع من البشر او ان الله أرسل ابنه ليضحي هذه التضحية او ان الإلهة الثلاثة ارسلوا احدهم لذلك. وهذه الاقوال الثلاثة عجيبة على العقل فالاله يعذب ويهان وينكل به لإسعاد الاتباع سواء منهم الصالحين او العاصين.
ثم جاء وظهر محمد صلى الله عليه وسلم في الحجاز فجاء بدعوة الحق ودعوة من سبقه من الرسل والأنبياء بدعوة ان لا اله الا الله فصدق بذلك دعوة اخوانه من الرسل ووافقهم في ذلك. وامر الناس بالمعروف ونهاهم عن المنكر ودعى الى مكارم الاخلاق ثم اظهر الله رسالته وانتشرت في معظم الارض ووافق سنن الرسل السابقين في انه :
1- ان دعوته كانت ان لا اله الا الله .
2- انه من البشر.
3- انه اتي بمعجزات امن عليها قومه
4- ان الله تعالى اظهره ونصره على اعدائه.
5- انه لم يمت حتى انتصر دينه وظهر في الارض.
6- انه ترك اتباعا مصلحين صالحين حملوا الرسالة ونشروها في اقصى الارض.
فاما اليهود فانهم انكروا رسالة محمد صلى الله عليهم وسلم واتهموه بالكذب كما فعلوا مع المسيح عليه السلام وفي ذلك عجب فان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم ياتي بما يخالف اصل عقيدتهم من الدعوة لان لا اله الا الله ومن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واثبت صحة دينهم والتشابه واضح في التشريعات من عبادات كالصلاة والصوم والزكاة والمعاملات والحدود وغيرها. فكان انكارهم له عن غير دليل او حجة فانهم لو اتبعوه لما خرجوا من دينهم لكون الاسلام اثبت لهم صدق دينهم ولاستزادوا من اتباع الخير والمعروف.
اما النصارى فقد انكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة لانه اثبت ان المسيح رسول من البشر ونفى عنه الالوهية واثبت استمرار سنن الله في ارسال الرسل من البشر. كما اثبت الاسلام ان المسيح لم يقتل وانما رفع وبذلك فان التضحية التي اداها المسيح لم تقع وبذلك فان نجاتهم من العقوبة ومن الاثام بتضحية المسيح لن تحدث وعليهم العمل والعبادة والطاعة واجتناب النواهي. ان اثبات الاسلام سنن الله في رسالة المسيح اقوى من ادعاءات النصارى في الإلوهية والتضحية والقتل و اقوى من دعوى اليهود في الانكار والاتهام بالزنا والسحر فقد اثبت الاسلام عفاف مريم عليها السلام واثبت البشرية لعيسى ودافع ان ولادته من غير ام لا تعني الالوهية له فان ادم ظهر من غير اب ولا ام فكان دعوى الالوهية له اقوى لان القياس كان لعدم وجود اب. ان اثبات الاسلام لعيسى بالبشرية والرسالة حل الاختلاف في هل هو اله او ابن او ثالث ثلاثة. وان ظهور دعوة الرسول المؤيدة بالمعجزات واعظمها معجزة القرآن وامرها بالمعروف ونهيها عن المنكر والاصلاح بالخير والنهي عن الشر دليل واضح للعقل على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن دخلها من اليهود والنصارى فانه لن تكون كفرا او انكارا لديانتهم السابقة بل هي اكمالا وتتمة لدينهم.
وبعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اخذ اتباع الرسول الرسالة ونشروها في أقاصي الارض واخرجوا البشر من عبادة النار والاصنام والبشر الى الدعوة الخالدة دعوة لا اله الا الله .
والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق