الثلاثاء، 15 أبريل 2014

قصة الذين خِلفوا



قولِ الله عز وجلّ: ) وعلى الثلاثة الذين خُلَّفوا (  [التوبة:118].
فيمن تخلفَ و حديثُ كعبِ بنِ مالك رضيَّ اللهُ عنه
عن كعب بن مالك رضيَّ اللهُ عنه قال : لم أتخلفْ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في غزوةٍ غزاها إلا في غزوةِ تبوك َ، غيرَ أني كنت تخلفتُ في غَزوةِ بدرٍ، ولم يعاتبْ أحداً تخلفَ عنها ، إنما خرج رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يُريدُ عيرَ قريشٍ حتى جمعَ اللهُ بينهم وبين عدوهم على غيرِ ميعاد . ولقد شهدتُ مع رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ليلةَ العقبةِ حين تواثقْنا على الاسلام ، وما أحبُّ أن لي بها مَشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدر أذكرَ في الناسِ منها. كان من خبري أني قطُّ أقوى ولا أيسرَ حين تخلفتُ عنه في تلك الغزاة . والله ما اجتمعتْ عندي قبلهُ راحلتانِ قطُّ حتى جمعتهما في تلك الغزوةِ ، ولم يكنْ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يريدُ غزوةً إلا ورى بغيرها [ أخفى هدفها الحقيقي ] ، حتى كانت تلك الغزوةُ غزاها رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في حرٍّ شديد ، واستقبلَ سفراً بعيداً ومفازاً ، وعدواً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أهبةَ غزوهم ، فأخبرَهم بوجههِ الذي يُريد ، والمسلمونَ مع رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم كثير، ولا يَجمعهم كتابٌ حافظ- يريد الديوان - قال كعبٌ : فما رجلٌ يريدُ أن يتغيبَ إلاّ ظنَّ أنْ سيخفى له ، ما لم ينزل فيه وحيُ الله . وغزا رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم تلك الغزوةَ حينَ طابتِ الثمارُ والظلالُ ، وتجهزَ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم والمسلمونَ معه ، فطفقتُ أغدو لكي أتجهزَ معهم ، فأرجعُ ولم أقضِ شيئا ً، فأقولُ في نفسي : أنا قادرٌ عليه . فلم يزلْ يَتمادى بي حتى اشتدَّ بالناسِ الجدُّ ، فأصبح رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلم والمسلمونَ معه ولم أقضِ من جهازي شيئاً . فقلت أتجهزُ بعدهُ بيوم أو يومين ، ثم ألحقهم ، فغدوتُ بعدَ أن فَصلوا لأتجهزَ ، فرجعت ولم أقضِ شيئاً. ثم غدوت ، ثم رجعت ولم أقضِ شيئاً. فلم يزلْ بي حتى أسرعوا وتفارطَ الغزوُ، وهممتُ أن أرتحلَ فأدركهم ، وليتني فعلتُ ، فلم يُقدرْ لي ذلك ، فكنتُ إذا خرجت في الناس - بعدَ خروجِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم - فطفتُ فيهم ، أحزنني أني لا أرى إلاّ رجلاً مغموصاً عليه النفاقُ [ متهماً بالنفاق ] ، أو رجلاً ممن عَذرَ اللهُ منَ الضعفاء ولم يَذكرني رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم حتى بلغَ تبوك ، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوكَ (( ما فعل كعبٌ )) ؟ فقال رجلٌ من بني سَلمة : يا رسولَ الله ، حبسه برُداه ، ونظره في عطفهِ . فقال مُعاذ بن جَبَل : بئسَ ما قلت ، والله يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيراً . فَسَكَتَ رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم . قال كعب بن مالك : فلما بَلَغَني أنه تَوجَّه قافِلاً حَضَرني همي ، وطَفِقتُ أتذكرُ الكِذبَ وأقول : بماذا أخرُجُ من سَخَطه غداً ؟ واستعنتُ على ذلك بكل ذي رأيٍ من أهلي . فلما قِيل : إنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قد أظلَّ قادمِاً زاحَ عني الباطِل ، وعرَفتُ أني لن أخرُجَ منه أبداً بشيءٍ فيه كِذب ، فأَجْمَعت صِدْقَه ، وأصبحَ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قادماً ،  وكان إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجدِ فيركع فيه ركعتَينِ ثم جلسَ للناس ، فلما فعلَ ذلك جاءه المخلَّفون ، فطفَقوا يَعتذِرون إليه ويحلِفون له – وكانوا بضعةً وثمانينَ رجلاً- فقَبِل منهم رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم عَلانيَتَهم وبايَعَهم واستغفَرَ لهم ، وَوَكَلَ سَرائرهم إلى الله . فجئته ، فلما سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تبسُّمَ المغضَبِ ثم قال (( تعالَ )) ، فجئت أمشي حتى جَلست بين يَدَيه ، فقال لي ((ما خلَّفك ؟ ألم تَكن قد ابتَعت ظهرَك [ أي ما يركب من الدواب ] )) ؟ فقلت : بلى ، إني واللهِ لو جلست عند غيرِكَ من أهل الدنيا لَرأيت أنْ سأخرُج مِن سَخَطِهِ بعُذْر ، ولقد أُعطيتُ جَدَلاً [ فصاحة وقوة كلام ] ، ولكنّي واللهِ لقد علمت لئن حدَّثتُك اليومَ حديثَ كذِبٍ تَرضى به عني لَيُوشكنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ ، ولئن حدَّثتُكَ حديثَ صِدقٍ تَجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عَفوَ الله ، لا واللهِ ما كان لي من عذر ، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيْسَرَ مني حينَ تخلفت عنك . فقال رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم (( أما هذا فقد صَدَقَ ، فقم حتى يقضيَ اللهُ فيك )). فقمت. وثارَ رجالٌ من بني سَلِمة فاتَّبَعوني فقالوا لي : واللهِ ما عَلمناكَ كنت أذنبت ذنباً قبلَ هذا ، ولقد عَجزتَ أن لا تكون اعتذرتَ الى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بما اعتذرَ إليه المتخلفون ، قد كان كافيكَ ذنبَكَ استغفارُ رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم لك . فو اللهِ ما زالوا يُؤنِّبونني حتى أردتُ أن أرجعَ فأُكذِّبَ نفسي . ثم قلت لهم : هل لَقيَ هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم ، رجُلان قالا مثلَ ما قلت ، فقيلَ لهما مثلُ ما قيلَ لك . فقلت مَن هما ؟ قالوا : مُرارةُ بن الرَّبيع العَمريّ وهلالُ بن أميةَ الواقفيّ ، فذكروا لي رجُلَين قد شَهِدا بدراً فيهما أسْوة ، فَمضيت حينَ ذكروهما لي . ونهى رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها [ نحن ] الثلاثة مِن بينِ مَن تخلفَ عنه ، فاجْتَنبنا الناسُ ، وتغيَّروا لنا ، حتى تَنكرَت في نفسي الأرضُ فما هي التي أعرف . فلبِثْنا على ذلك خمسينَ ليلةً ، فأمّا صاحِبايَ فاستَكانا وقعدا في بُيوتهما يَبكيان ، وأما أنا فكنت أشبَّ [ أصغر ] القوم وأجلَدَهم ، فكنت أخرجُ فأشهدُ الصلاةَ معَ المسلمين ، وأطوفُ في الأسواق ، ولا يُكلمني أحد ، وآتي رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسِهِ بعدَ الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرَّك شفتَيه بردِّ السلام عَلَيَّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه ، فأُسارِقُهُ النَّظر ، فإذا أقْبلتُ على صلاتي أقبلَ إليَّ ، وإذا التفتُّ نحوَهُ أعرَض عني [ أنظر شفقة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم وحبه لأصحابه ]. حتى إذا طالَ عليَّ ذلك من جَفوةِ الناس مشَيت حتى تَسوَّرْت جِدار حائطِ أبي قَتادة ، وهو ابنُ عمي وأحبُّ الناس إليّ ، فسلمت عليه ، فو اللهِ ما ردَّ عليَّ السلام . فقلت : يا أبا قَتادة ، أنشُدُك باللهِ ، هل تعلمني أُحبُّ اللهَ ورسولَه ؟ فسكت . فعُدتُ له فَنشدته فسكت . فعُدت له فَنشدته فقال : اللهُ ورسولُه أعلم . ففاضَت عينايَ ، وتولَّيت حتى تَسورتُ الجدار . قال : فبينما أنا أمشي بسوقِ المدينة إذا نَبطيّ من أنباطِ أهل الشام ممن قَدمَ بالطعام يبيعهُ بالمدينة يقول : مَن يدلُّ على كعبِ بن مالك ؟ فطفقَ الناسُ يُشيرون له : حتى إذا جاءني دَفَعَ إليَّ كتاباً مِن مَلك غسَّانَ فإذا فيه : أما بعدُ فإنه قد بلغني أنَّ صاحبَك قد جَفاك ، ولم يَجعلْك اللهُ بدارِ هَوانٍ ولا مَضْيَعة ، فالْحَقْ بنا نُواسِكَ . فقلتُ لما قرأتُها : وهذا أيضاً مِنَ البَلاء . فتيمَّمْت بها التَّنُّورَ فَسَجَرتُهُ بها . حتى إذا مَضتْ أربعون ليلةً منَ الخمسين ، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إنَّ رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم يأمُرُكَ أن تَعتزِلَ امرأتك .  فقلتُ : أُطلِّقُها أم ماذا أفعلُ ؟ قال : لا بل اعتزِلْها و لا تَقرَبها . وأرسل إلى صاحبيَّ مثلَ ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلكِ فتكوني عنَدهم حتى يَقضيَ اللهُ في هذا الأمر . قال كعبٌ : فجاءَتِ امرأةُ هِلال بن أميةَ رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم فقالت : يارسولَ الله ، إن هلالَ بن أميةَ شيخٌ ضائعٌ ، ليس له خادم ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه ؟ قال (( لا ، ولكنْ لا يَقربْك )). قالت: إنهُ والله ما بِهِ حركة إلى شيء ، والله مازالَ يَبكي منذُ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا  . فقال لي بعضُ أهلي لوِ استأذنتَ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في امرأتكَ كما أذِن لامرأةِ هلالِ بن أمية أن تخدمَه . فقلت : والله لا أستأذنُ فيها رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وما يُدريني ما يقول رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم إذا استأذنتُهُ فيها ، وأنا رجلٌ شابٌّ . فَلبثتُ بعدَ ذلكَ عشرَ ليالٍ حتى كملتْ لنا خمسون ليلةً من حِين نهى رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم عن كلامنا. فلما صليتُ صلاةَ الفجر صُبحَ خمسينَ ليلةً ، وأنا عَلى ظهرِ بيتٍ من بيوتنا ، فبينما أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكرَ اللهُ : قد ضاقت عليَّ نفسي ، وضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبت ، سمعت صوتَ صارخٍ أوفى [ صعد ] على جبلِ سَلعٍ بأعلى صوته : يا كعبَ بن مالك أبشرْ . قال : فخَررتُ ساجداً ، وعرفت أن قد جاء فَرَج . وآذنَ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم بتوبةِ اللهِ علينا حينَ صلَّى صلاةَ الفجر، فذهبَ الناسُ يُبشروننا ، وذهبَ قِبلَ صاحبيَّ مُبشَّرون ، و رَكضَ إليَّ رجلٌ فرساً ، وسعى ساعٍ من أسلم فأوفى على الجبل ، وكان الصوتُ أسرعَ من الفرس . فلما جاءني الذي سمعت صوتهُ يُبشرُني نَزَعت لهُ ثوبيَّ ، فكسوته إياهما بُبشراه . واللهِ ما أملكُ غيرهما يومَئذٍ . واستعرتُ ثوبين فلبستهما ، وانطلقت إلى رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم فيتلقّاني الناسُ فَوجاً فوجاً يهنُّوني بالتوبة يقولون : لِتَهنك توبة الله عليك. قال كعبٌ: حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم جالسٌ حولهُ الناس ، فقام إليَّ طلحةُ بن عُبيد اللهِ يُهرولُ حتى صافحني وهنّاني ، واللهِ ما قامَ إليَّ رجلٌ منَ المهاجرينَ غيرهُ ، ولا أنساها لطلحةَ . قال كعب : فلما سلمت على رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قال رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم وهو يَبرقُ وَجههُ منَ السُّرور [ انظر محبة الرسول لأصحابه ] (( أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدَتك أمُّك )). قال : قلت : أمِن عندِك يا رسولَ الله أم من عندِ الله ؟ قال (( لا ، بل من عند الله )). وكان رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم إذا سُرَّ استنارَ وجههُ كأنهُ قطعة قمر، وكنّا نعرفُ ذلك منه . فلما جلست بينَ يديه قلت : يا رسولَ الله ، إنَّ من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم (( أمسِكْ عليك بعضَ مالك ، فهو خير لك )) ، قلت : فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت : يا رسولَ الله ، إنَّ الله إنما نجاني بالصَّدق ، وإنَّ من توبتي أن لا أُحدثَ إلا صِدقاً ما بقيت . فو اللهِ ما أعلمُ أحداً من المسلمين أبلاهُ اللهُ في صِدق الحديث – منذُ ذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم – أحسن مما أبلاني ، ما تعمدتُ منذ ذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى يومي هذا كذِباً ، وإني لأرجو أن يَحفظني اللهُ فيما بقيت . وأنزلَ اللهُ على رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم: ) لقد تابَ اللهُ على النبيَّ والمهاجرين-إلى قوله-وكونوا معَ الصادقين ([ التوبة:117] فوالله ما أنعمَ اللهُ علىَّ من نعمةِ قط – بعد أن هداني للإِسلام – أعظم ، في نفسي مِن صدقي لرسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم أن لا أكونَ كذَبُته فأهلكَ كما هلك الذين كَذَبوا ، فإِنَّ الله قال للذين كذَبوا حينَ أنزَل الوحيَ شرَّ ما قال لأحد ، فقال تباركَ وتعالى: ) سَيحلفونَ بالله لكم إذا انقلبتم - إلى قوله - فإنَّ اللهَ لا يرضى عن القوم الفاسقين ( [التوبة:95] قال كعب : وكنا تخلفنا أيها [ نحن ] الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبلَ منهم رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم حينَ حلفوا له، فبايعهم واستغفرَ لهم ، وأرجَأ رسول اللهُ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله : ) وعلى الثلاثة الذين خُلَّفوا ( [التوبة:118] وليس الذي ذكرَ اللهُ مما خُلفنا عن الغْزو، إنما هو تَخليفهُ إيّانا وإرجاؤهُ أمرَنا عمَّن حلف له واعتذرَ إليه ، فقِبلَ منه .[1]


[1] صحيح البخاري \كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك  - حديث : ‏4165‏

ليست هناك تعليقات: