قولِ الله عز وجلّ: ) وعلى الثلاثة
الذين خُلَّفوا (
[التوبة:118].
فيمن تخلفَ و حديثُ كعبِ بنِ مالك رضيَّ اللهُ عنه
عن
كعب بن مالك رضيَّ اللهُ عنه قال : لم أتخلفْ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ
وسلَّم في غزوةٍ غزاها إلا في غزوةِ تبوك َ، غيرَ أني كنت تخلفتُ في غَزوةِ بدرٍ، ولم
يعاتبْ أحداً تخلفَ عنها ، إنما خرج رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يُريدُ
عيرَ قريشٍ حتى جمعَ اللهُ بينهم وبين عدوهم على غيرِ ميعاد . ولقد شهدتُ مع رسولِ
الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ليلةَ العقبةِ حين تواثقْنا على الاسلام ، وما أحبُّ
أن لي بها مَشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدر أذكرَ في الناسِ منها. كان من خبري أني قطُّ
أقوى ولا أيسرَ حين تخلفتُ عنه في تلك الغزاة . والله ما اجتمعتْ عندي قبلهُ
راحلتانِ قطُّ حتى جمعتهما في تلك الغزوةِ ، ولم يكنْ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ
وسلَّم يريدُ غزوةً إلا ورى بغيرها [ أخفى هدفها الحقيقي ] ، حتى كانت تلك الغزوةُ
غزاها رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في حرٍّ شديد ، واستقبلَ سفراً بعيداً
ومفازاً ، وعدواً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أهبةَ غزوهم ، فأخبرَهم
بوجههِ الذي يُريد ، والمسلمونَ مع رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم كثير، ولا يَجمعهم
كتابٌ حافظ- يريد الديوان - قال كعبٌ : فما رجلٌ يريدُ أن يتغيبَ إلاّ ظنَّ أنْ
سيخفى له ، ما لم ينزل فيه وحيُ الله . وغزا رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم
تلك الغزوةَ حينَ طابتِ الثمارُ والظلالُ ، وتجهزَ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم
والمسلمونَ معه ، فطفقتُ أغدو لكي أتجهزَ معهم ، فأرجعُ ولم أقضِ شيئا ً، فأقولُ
في نفسي : أنا قادرٌ عليه . فلم يزلْ يَتمادى بي حتى اشتدَّ بالناسِ الجدُّ ،
فأصبح رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلم والمسلمونَ معه ولم أقضِ من جهازي شيئاً .
فقلت أتجهزُ بعدهُ بيوم أو يومين ، ثم ألحقهم ، فغدوتُ بعدَ أن فَصلوا لأتجهزَ ،
فرجعت ولم أقضِ شيئاً. ثم غدوت ، ثم رجعت ولم أقضِ شيئاً. فلم يزلْ بي حتى أسرعوا
وتفارطَ الغزوُ، وهممتُ أن أرتحلَ فأدركهم ، وليتني فعلتُ ، فلم يُقدرْ لي ذلك ،
فكنتُ إذا خرجت في الناس - بعدَ خروجِ رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلّم - فطفتُ
فيهم ، أحزنني أني لا أرى إلاّ رجلاً مغموصاً عليه النفاقُ [ متهماً بالنفاق ] ،
أو رجلاً ممن عَذرَ اللهُ منَ الضعفاء ولم يَذكرني رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ
وسلَّم حتى بلغَ تبوك ، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوكَ (( ما فعل كعبٌ )) ؟ فقال
رجلٌ من بني سَلمة : يا رسولَ الله ، حبسه برُداه ، ونظره في عطفهِ . فقال مُعاذ
بن جَبَل : بئسَ ما قلت ، والله يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيراً . فَسَكَتَ
رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم . قال كعب بن مالك : فلما بَلَغَني أنه تَوجَّه
قافِلاً حَضَرني همي ، وطَفِقتُ أتذكرُ الكِذبَ وأقول : بماذا أخرُجُ من سَخَطه
غداً ؟ واستعنتُ على ذلك بكل ذي رأيٍ من أهلي . فلما قِيل : إنَّ رسولَ اللهِ صلى
اللهُ عليهِ وسلَّم قد أظلَّ قادمِاً زاحَ عني الباطِل ، وعرَفتُ أني لن أخرُجَ
منه أبداً بشيءٍ فيه كِذب ، فأَجْمَعت صِدْقَه ، وأصبحَ رسول الله صلى اللهُ عليهِ
وسلَّم قادماً ، وكان إذا قدِمَ من سفرٍ
بدأ بالمسجدِ فيركع فيه ركعتَينِ ثم جلسَ للناس ، فلما فعلَ ذلك جاءه المخلَّفون ،
فطفَقوا يَعتذِرون إليه ويحلِفون له – وكانوا بضعةً وثمانينَ رجلاً- فقَبِل منهم
رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم عَلانيَتَهم وبايَعَهم واستغفَرَ لهم ،
وَوَكَلَ سَرائرهم إلى الله . فجئته ، فلما سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تبسُّمَ
المغضَبِ ثم قال (( تعالَ )) ، فجئت أمشي حتى جَلست بين يَدَيه ، فقال لي ((ما
خلَّفك ؟ ألم تَكن قد ابتَعت ظهرَك [ أي ما يركب من الدواب ] )) ؟ فقلت : بلى ،
إني واللهِ لو جلست عند غيرِكَ من أهل الدنيا لَرأيت أنْ سأخرُج مِن سَخَطِهِ
بعُذْر ، ولقد أُعطيتُ جَدَلاً [ فصاحة وقوة كلام ] ، ولكنّي واللهِ لقد علمت لئن
حدَّثتُك اليومَ حديثَ كذِبٍ تَرضى به عني لَيُوشكنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ ،
ولئن حدَّثتُكَ حديثَ صِدقٍ تَجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عَفوَ الله ، لا واللهِ
ما كان لي من عذر ، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيْسَرَ مني حينَ تخلفت عنك . فقال
رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم (( أما هذا فقد صَدَقَ ، فقم حتى يقضيَ اللهُ
فيك )). فقمت. وثارَ رجالٌ من بني سَلِمة فاتَّبَعوني فقالوا لي : واللهِ ما
عَلمناكَ كنت أذنبت ذنباً قبلَ هذا ، ولقد عَجزتَ أن لا تكون اعتذرتَ الى رسولِ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بما اعتذرَ إليه المتخلفون ، قد كان كافيكَ ذنبَكَ
استغفارُ رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم لك . فو اللهِ ما زالوا يُؤنِّبونني
حتى أردتُ أن أرجعَ فأُكذِّبَ نفسي . ثم قلت لهم : هل لَقيَ هذا معي أحد ؟ قالوا :
نعم ، رجُلان قالا مثلَ ما قلت ، فقيلَ لهما مثلُ ما قيلَ لك . فقلت مَن هما ؟
قالوا : مُرارةُ بن الرَّبيع العَمريّ وهلالُ بن أميةَ الواقفيّ ، فذكروا لي
رجُلَين قد شَهِدا بدراً فيهما أسْوة ، فَمضيت حينَ ذكروهما لي . ونهى رسولُ الله
صلى اللهُ عليه وسلم المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها [ نحن ] الثلاثة مِن بينِ مَن
تخلفَ عنه ، فاجْتَنبنا الناسُ ، وتغيَّروا لنا ، حتى تَنكرَت في نفسي الأرضُ فما
هي التي أعرف . فلبِثْنا على ذلك خمسينَ ليلةً ، فأمّا صاحِبايَ فاستَكانا وقعدا
في بُيوتهما يَبكيان ، وأما أنا فكنت أشبَّ [ أصغر ] القوم وأجلَدَهم ، فكنت أخرجُ
فأشهدُ الصلاةَ معَ المسلمين ، وأطوفُ في الأسواق ، ولا يُكلمني أحد ، وآتي رسولَ
الله صلى اللهُ عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسِهِ بعدَ الصلاة ، فأقول في نفسي
: هل حرَّك شفتَيه بردِّ السلام عَلَيَّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه ، فأُسارِقُهُ
النَّظر ، فإذا أقْبلتُ على صلاتي أقبلَ إليَّ ، وإذا التفتُّ نحوَهُ أعرَض عني [
أنظر شفقة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم وحبه لأصحابه ]. حتى إذا طالَ عليَّ ذلك من
جَفوةِ الناس مشَيت حتى تَسوَّرْت جِدار حائطِ أبي قَتادة ، وهو ابنُ عمي وأحبُّ
الناس إليّ ، فسلمت عليه ، فو اللهِ ما ردَّ عليَّ السلام . فقلت : يا أبا قَتادة
، أنشُدُك باللهِ ، هل تعلمني أُحبُّ اللهَ ورسولَه ؟ فسكت . فعُدتُ له فَنشدته
فسكت . فعُدت له فَنشدته فقال : اللهُ ورسولُه أعلم . ففاضَت عينايَ ، وتولَّيت
حتى تَسورتُ الجدار . قال : فبينما أنا أمشي بسوقِ المدينة إذا نَبطيّ من أنباطِ
أهل الشام ممن قَدمَ بالطعام يبيعهُ بالمدينة يقول : مَن يدلُّ على كعبِ بن مالك ؟
فطفقَ الناسُ يُشيرون له : حتى إذا جاءني دَفَعَ إليَّ كتاباً مِن مَلك غسَّانَ
فإذا فيه : أما بعدُ فإنه قد بلغني أنَّ صاحبَك قد جَفاك ، ولم يَجعلْك اللهُ
بدارِ هَوانٍ ولا مَضْيَعة ، فالْحَقْ بنا نُواسِكَ . فقلتُ لما قرأتُها : وهذا
أيضاً مِنَ البَلاء . فتيمَّمْت بها التَّنُّورَ فَسَجَرتُهُ بها . حتى إذا مَضتْ
أربعون ليلةً منَ الخمسين ، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال
: إنَّ رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم يأمُرُكَ أن تَعتزِلَ امرأتك . فقلتُ : أُطلِّقُها أم ماذا أفعلُ ؟ قال : لا
بل اعتزِلْها و لا تَقرَبها . وأرسل إلى صاحبيَّ مثلَ ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي
بأهلكِ فتكوني عنَدهم حتى يَقضيَ اللهُ في هذا الأمر . قال كعبٌ : فجاءَتِ امرأةُ
هِلال بن أميةَ رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم فقالت : يارسولَ الله ، إن هلالَ
بن أميةَ شيخٌ ضائعٌ ، ليس له خادم ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه ؟ قال (( لا ، ولكنْ
لا يَقربْك )). قالت: إنهُ والله ما بِهِ حركة إلى شيء ، والله مازالَ يَبكي منذُ
كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . فقال
لي بعضُ أهلي لوِ استأذنتَ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في امرأتكَ كما أذِن
لامرأةِ هلالِ بن أمية أن تخدمَه . فقلت : والله لا أستأذنُ فيها رسولَ الله صلى
اللهُ عليهِ وسلَّم ، وما يُدريني ما يقول رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم إذا
استأذنتُهُ فيها ، وأنا رجلٌ شابٌّ . فَلبثتُ بعدَ ذلكَ عشرَ ليالٍ حتى كملتْ لنا
خمسون ليلةً من حِين نهى رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم عن كلامنا. فلما صليتُ
صلاةَ الفجر صُبحَ خمسينَ ليلةً ، وأنا عَلى ظهرِ بيتٍ من بيوتنا ، فبينما أنا
جالسٌ على الحالِ التي ذكرَ اللهُ : قد ضاقت عليَّ نفسي ، وضاقت عليَّ الأرضُ بما
رَحُبت ، سمعت صوتَ صارخٍ أوفى [ صعد ] على جبلِ سَلعٍ بأعلى صوته : يا كعبَ بن
مالك أبشرْ . قال : فخَررتُ ساجداً ، وعرفت أن قد جاء فَرَج . وآذنَ رسولُ الله
صلى اللهُ عليهِ وسلَّم بتوبةِ اللهِ علينا حينَ صلَّى صلاةَ الفجر، فذهبَ الناسُ
يُبشروننا ، وذهبَ قِبلَ صاحبيَّ مُبشَّرون ، و رَكضَ إليَّ رجلٌ فرساً ، وسعى ساعٍ
من أسلم فأوفى على الجبل ، وكان الصوتُ أسرعَ من الفرس . فلما جاءني الذي سمعت
صوتهُ يُبشرُني نَزَعت لهُ ثوبيَّ ، فكسوته إياهما بُبشراه . واللهِ ما أملكُ
غيرهما يومَئذٍ . واستعرتُ ثوبين فلبستهما ، وانطلقت إلى رسولِ الله صلى اللهُ
عليهِ وسلَّم فيتلقّاني الناسُ فَوجاً فوجاً يهنُّوني بالتوبة يقولون : لِتَهنك
توبة الله عليك. قال كعبٌ: حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللهِ صلى اللهُ عليه
وسلَّم جالسٌ حولهُ الناس ، فقام إليَّ طلحةُ بن عُبيد اللهِ يُهرولُ حتى صافحني
وهنّاني ، واللهِ ما قامَ إليَّ رجلٌ منَ المهاجرينَ غيرهُ ، ولا أنساها لطلحةَ .
قال كعب : فلما سلمت على رسولِ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قال رسول الله صلى
اللهُ عليهِ وسلَّم وهو يَبرقُ وَجههُ منَ السُّرور [ انظر محبة الرسول لأصحابه ]
(( أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدَتك أمُّك )). قال : قلت : أمِن عندِك يا
رسولَ الله أم من عندِ الله ؟ قال (( لا ، بل من عند الله )). وكان رسولُ الله صلى
اللهُ عليهِ وسلَّم إذا سُرَّ استنارَ وجههُ كأنهُ قطعة قمر، وكنّا نعرفُ ذلك منه
. فلما جلست بينَ يديه قلت : يا رسولَ الله ، إنَّ من توبتي أن أنخلعَ من مالي
صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم (( أمسِكْ عليك
بعضَ مالك ، فهو خير لك )) ، قلت : فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت : يا رسولَ
الله ، إنَّ الله إنما نجاني بالصَّدق ، وإنَّ من توبتي أن لا أُحدثَ إلا صِدقاً
ما بقيت . فو اللهِ ما أعلمُ أحداً من المسلمين أبلاهُ اللهُ في صِدق الحديث –
منذُ ذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم – أحسن مما أبلاني ، ما
تعمدتُ منذ ذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى يومي هذا كذِباً ،
وإني لأرجو أن يَحفظني اللهُ فيما بقيت . وأنزلَ اللهُ على رسول الله صلى اللهُ
عليهِ وسلَّم: ) لقد تابَ اللهُ على النبيَّ والمهاجرين-إلى
قوله-وكونوا معَ الصادقين ([ التوبة:117] فوالله ما أنعمَ اللهُ علىَّ
من نعمةِ قط – بعد أن هداني للإِسلام – أعظم ، في نفسي مِن صدقي لرسولِ الله صلى
اللهُ عليهِ وسلَّم أن لا أكونَ كذَبُته فأهلكَ كما هلك الذين كَذَبوا ، فإِنَّ
الله قال للذين كذَبوا حينَ أنزَل الوحيَ شرَّ ما قال لأحد ، فقال تباركَ وتعالى: ) سَيحلفونَ
بالله لكم إذا انقلبتم - إلى قوله - فإنَّ اللهَ لا يرضى عن القوم الفاسقين ( [التوبة:95]
قال كعب : وكنا تخلفنا أيها [ نحن ] الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبلَ منهم رسولُ
الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم حينَ حلفوا له، فبايعهم واستغفرَ لهم ، وأرجَأ رسول
اللهُ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله : ) وعلى الثلاثة
الذين خُلَّفوا ( [التوبة:118] وليس الذي ذكرَ اللهُ مما خُلفنا
عن الغْزو، إنما هو تَخليفهُ إيّانا وإرجاؤهُ أمرَنا عمَّن حلف له واعتذرَ إليه ،
فقِبلَ منه .[1]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق